Psst...

Do you want to get language learning tips and resources every week or two? Join our mailing list to receive new ways to improve your language learning in your inbox!

Join the list

Arabic Audio Request

strickvl
5656 Words / 1 Recordings / 0 Comments

انها قصة طويلة . لكنني لن أقول لك كل شيء . وبعض التفاصيل لن تهمك كثيراً ، وبعضها ... المهم أنني كما ترى ولدت بالخرطوم . نشأت يتيماً ، فقد مات أبي قبل أن أولد ببضعة أشهر ، لكنه ترك لنا ما يستر الحال . كان يعمل في تجارة الجمال . لم يكن لي أخوة ، فلم تكن الحياة عسيرة عليّ وعلى أمي . حين أرجع الآن بذاكرتي ، أراها بوضوح ، شفتاها الرقيقتان مطبقتان في حزم ، وعلى وجهها شيء مثل القناع . لا أدري . قناع كثيف ، كأن وجهها صفحة بحر ، هل تفهم ؟ ليس له لون واحد بل ألوان متعددة ، تظهر وتغيب وتتمازج . لم يكن لنا أهل . كنا ، أنا وهي ، أهلاً بعضنا لبعض . كانت كأنها شخص غريب جمعتني به الظروف صدفة في الطريق . لعني كنت مخلوقاً غريباً ، أو لعل أمي كانت غريبة . لا أدري لم نكن نتحدث كثيراً ، وكنت ، لعلك تعجب ، أحس احساساً دافئاً بأنني حر ، بأنه ليس ثمة مخلوق أب أو أم ، تربطني كالوتد إلى بقعة معينة ومحيط معين . كنت وأنام ، أخرج وأدخل ، ألعب خارج البيت ، أتسكع في الشوارع ، ليس ثمة أحد يأمرني أو ينهاني إلا أنني منذ صغري ، كنت أحس بأنني أنني مختلف . أقصد أنني لست كبقية الأطفال في سني ، لا أتأثر بشيء لا أبكي إذا ضربت ، لا أفرح إذا أثنى عليّ المدرس في الفصل ، لا أتألم لما يتألم له الباقون . كنت مثل شيء مكور من المطاط ، تلقيه في الماء فلا يبتل ، ترميه على الأرض فيقفز . كان ذلك الوقت أول عهدنا بالمدارس أذكر الآن الناس كانوا غير راغبين فيها . كانت الحكومة تبعث أعوانها يجوبون البلاد والأحياء ، فيخفي الناس أبناءهم . كانوا يظنونها شراً عظيماً جاءهم مع جيوش الاحتلال . كنت ألعب مع الصبية خارج دارنا ، فجاء رجل على فرس ، في زي رسمي ، ووقف فوقنا . جرى الصبية ، وبقيت أنظر إلى الفرس وإلى الرجل فوقه . سألني عن اسمي فأخبرته . قال لي كم عمرك ، فقلت له لا أدري . قال لي : " هل تحب أن تتعلم في المدرسة ؟ " قلت له : " ما هي المدرسة ؟ " فقال لي : بناء جميل من الحجر وسط حديقة كبيرة على شاطئ النيل . يدق الجرس وتدخل الفصل مع التلاميذ . تتعلم القراءة والكتابة والحساب . قلت للرجل : " هل ألبس عمامة كهذه ؟ " وأشرت إلى شيء كالقبة فوق رأسه . فضحك الرجل وقال لي : " هذه ليست عمامة . هذه برنيطة . قبعة " . وترجل عن فرسه ووضعها فوق رأسي فغاب وجهي كله فيها . ثم قال الرجل : " حين تكبر ، وتخرج من المدرسة ، وتصير موظفاً في الحكومة ، تلبس قبعة كهذه " قلت للرجل : " أذهب للمدرسة " . أردفني الرجل خلفه فوق الحصان ، وحملني إلى مكان ، كما وصفه ، من الحجر ، على ضفة النيل ، تحيط به أشجار وأزهار . ودخلنا على رجل ذي لحية ، يلبس جبة ، فقام وربت على رأسي ، وقال لي : " لكن أين أبوك ؟ " فقلت لن أن أبي ميت . فقال لي : " من ولي أمرك ؟ " قلت له : " أريد أن أدخل المدرسة " . نظر إليّ الرجل بعطف ، ثم قيدوا اسمي في سجل ، وسألوني كم عمرك فقلت لهم لا أدري . وفجأة دق الجرس . فررت منهم ، ودخلت إحدى الحجرات فجاء الرجلان وساقاني إلى حجرة أخرى وأجلساني في مقعد بين صبية آخرين . عدت إلى أمي في الظهر فسألتني أين كنت ، فحكيت لها القصة . نظرت إليّ برهة نظرة غامضة ، كأنها أرادت أن تضمني إلى صدرها . فد رأيت وجهها يصفو برهة ، وعينيها تلمعان ، وشفتيها تفتران كأنها تريد أن تبتسم ، أو تقول شيئاً . لكنها لم تقل شيئاً . وكانت تلك نقطة تحول في حياتي . كان ذلك أول قرار اتخذته ، بمحض إرادتي .
إنني لا أطلب منك أن تصدق ما أقوله لك . لك أن تعجب وأن تشك . أنت حر . هذه وقائع مضى عليها وقت طويل ، وهي كما ترى الآن ، لا قيمة لها . أقولها لك لأنها تحضرني ، لأن الحوادث بعضها يذكر بالبعض الآخر . المهم أنني انصرفت بكل طاقاتي لتلك الحياة الجديدة . وسرعان ما اكتشفت في عقلي مقدرة عجيبة على الحفظ والاستيعاب والفهم . أقرأ الكتاب فيرسخ جملة في ذهني . ما ألبث أن أركز عقلي في مشكلة الحساب حتى تتفتح لي مغالقها ، تذوب بين يدي كأنها قطعة ملح وضعتها في الماء . تعلمت الكتابة في أسبوعين ، وانطلقت بعد ذلك لا ألوي على شيء . عقلي كأنه مدية حادة ، تقطع فر برود وفعالية . لم أبال بدهشة المعلمين وإعجاب رفقائي أو حسدهم . كان المعلمون ينظرون إليّ كأنني معجزة ، وبدأ التلاميذ يطلبون ودي . لكنني كنت مشغولاً بهذه الآلة العجيبة التي أتيحت لي . وكنت بارداً كحقل جليد ، لا يوجد في العالم شيء يهزني . طويت المرحلة الأولى في عامين ، وفي المدرسة الوسطى اكتشفت ألغازاً منها اللغة الانكليزية . فمضى عقلي يعض ويقطع كأسنان محراث . الكلمات والجمل تتراءى لي كأنها معادلات رياضية ، والجبر والهندسة كأنها رقعة شطرنج . كانت المرحلة الوسطى أقصى غاية يصل إليها المرء في التعليم تلك الأيام . وبعد ثلاثة أعوام ، قال لي ناظر المدرسة ، وكان انكليزياً : " هذه البلد لا تتسع لذهنك ، فسافر . أذهب إلى مصر أو لبنان أو انكلترا . ليس عندنا شيء نعطيك إياه بعد الآن " . قلت له على الفور : " أريد أن أذهب إلى القاهرة " . فسهّل لي ، فيما بعد ، السفر ، والدخول مجاناً في مدرسة ثانوية في القاهرة ، ومنحة دراسية من الحكومة . وهذه حقيقة في حياتي ، كيف قيضت الصدف لي قوماً ساعدوني وأخذوا بيدي في كل مرحلة ، قوماً لم أكن أحس تجاههم بأي إحساس بالجميل . كنت أتقبل مساعدتهم ، كأنها واجب يقومون به نحوي .
حين أخبرني ناظر المدرسة بأن كل شيء أُعد لسفري للقاهرة ، ذهبت إلى أمي وحدثتها . نظرت إلى مرة أخرى ، تلك النظرة الغربية . افترت شفتاها لحظة كأنها تريد أن تبتسم ـ ثم أطبقتها وعاد وجهها كعهده ، قناعاً كثيفاً ، بل مجموعة أقنعة . ثم غابت قليلاً ، وجاءت بصرَّة وضعتها في يدي ، وقالت لي : " لو أن أباك عاش ، لما أختار لك غير ما اخترته لنفسك . افعل ما تشاء . سافر . أو أبق ، أنت وشأنك . انها حياتك ، وأنت حر فيها . في هذه الصرة ما تستعين به " . كان ذلك وداعنا . لا دموع ولا قبل ولا ضوضاء . مخلوقات سارا شطراً من الطريق معاً ، ثم سلك كل منهما سبيله . وكان ذلك في الواقع آخر ما قالته لي ، فأنني لم أرها بعد ذلك . بعد سنوات طويلة ، وتجارب عدة ، تذكرت تلك اللحظة ، وبكيت . أما الآن ، فأنني لم أشعر بشيء على الإطلاق . جمعت متاعي في حقيبة صغيرة ، وركبت القطار . لم يلّوح أحد بيده ولم تنهمر دموعي لفراق أحد . وضرب القطار في الصحراء ، ففكرت قليلاً في البلد الذي خلفته ورائي ، فكان مثل جبل ضربت خيمتي عنده ، وفي الصباح قلعت الأوتاد وأسرجت بعيري ، وواصلت رحلتي . وفكرت في القاهرة ونحن في وادي حلفا ، فتخيلها عقلي جبلاً آخر ، أكبر حجماً، سأبيت عنده ليلة أو ليلتين ، ثم أواصل الرحلة إلى غاية أخرى .
أذكر أنني جلست في القطار قبالة رجل في مسوح وعلى رقبته صليب كبير أصفر . ابتسم الرجل في وجهي وتحدث معي باللغة الانكليزية ، فأجبته . أذكر تماماً أن الدهشة بدت على وجهه واتسعت حدقتا عينيه أول ما سمع صوتي . دقق النظر في وجهي وقال لي : " كم سنك ؟ " فقلت له خمسة عشر . كنت في الواقع في الثانية عشرة ، لكنني خفت أن يستخف بي. فقال الرجل : " إلى أين تقصد ؟ " فقلت له : " إنني ذاهب للالتحاق بمدرسة ثانوية في القاهرة " . فقال : " وحدك ؟ " قلت نعم . نظر إلى مرة أخرى نظرة طويلة فاحصة ، فقلت له قبل أن يتكلم : " إنني أحب السفر وحدي . مم أخاف ؟ " حينئذ قال لي جملة لم أحفل بها كثيراً وقتذاك . وأضاءت وجهه ابتسامة كبيرة وأردف : " إنك تتحدث اللغة الانكليزية بطلاقة مذهلة " .
وصلت القاهرة ، فوجدت مستر روبنسن وزوجته في انتظاري ، فقد أخبرتهما مستر ستكول بقدومي . صافحني الرجل وقال لي : " كيف أنت يا مستر سعيد ؟ " فقلت له : " أنا بخير يا مستر رونسن " . ثم قدمني إلى زوجته . وفجأة أحسست بذراعي المرأة تطوقاني ، وشفتيها على خدي . في تلك اللحظة ، وأنا واقف على رصيف المحطة ، وسط دوامة من الأصوات والأحاسيس ، وزندا المرأة ملتفان حول عنقي ـ وفمها على خدي ، ورائحة جسمها ، رائحة أوربية غريبة ، تدغدغ أنفي ، وصدرها يلامس صدري ، شعرت وأنا الصبي ابن الاثني عشر عاماً بشهوة جنسية مبهمة لم أعرفها من قبل في حياتي ، وأحسست كأن القاهرة ، ذلك الجبل الكبير الذي حملني إليه بعيري ، امرأة أوربية ، مثل مسز روبنسن وتقول لي : " أنت يا مستر سعيد إنسان خال تماماً من المرح " . صحيح أنني لم أكن أضحك . وتضحك مسز روبنسن وتقول لي : " لا تستطيع أن تنسى عقلك أبداً؟ " ويوم حكموا عليّ في الأولد بيلي بالسجن سبع سنوات ، لم أجد صدراً أسند رأسي إليه . وربتت على رأسي وقالت : " لا تبك يا طفلي العزيز " . لم يكن لهما أطفال . كان مستر روبنسن يحسن اللغـة العـربية ، ويعني بالفكر الإسلامي والعمـارة الإسلامية ، فزرت معهما جوامع القاهرة ، ومتاحفها وآثارها . وكانت أحب مناطق القاهرة إليهما ، منطقة الأزهر . كنا حين تكل أقدامنا من الطواف ، نلوذ بمقهى بجوار جامع الأزهر ، ونشرب عصير التمر هندي ، ويقرأ مستر روبنسن شعر المعري . كنت وقتها مشغولاً بنفسي ، فلم أحفل بالحب الذي أسبغاه علي . كانت مسز روبنسن ممتلئة الجسم ، برونزية اللون ، منسجمة مع القاهرة ، كأنها صورة منتقاة بذوق ، لتناسب لون الجدران في غرفة . وكنت أنظر إلى شعر ابطيها ,أحس بالذعر .. لعلها كانت تعلم أنني أشتهيها ، لكنها كانت عذبة ، أعذب امرأة عرفتها . تضحك بمرح ، وتحنو علي كما تحنو أم على إبنها .
وكانا على الرصيف حين أقلعت بي الباخرة من الإسكندرية . ورأيتها من بعيد وهي تلوح لي منديلها ، ثم تجفف به الدمع من عينيها ، وإلى جوارها زوجها ، واضعاً يديه على خصره ، وأكاد أرى ، حتى من ذلك البعد ، صفاء عينيه . الزرقاوين . إلا أنني لم أكن حزيناً ، كان كل همي أن أصل لندن ، جبلاً آخر أكبر من القاهرة ، لا أدري كم ليلة أمكث عنده . كنت في الخامسة عشرة ، يظنني من يراني في العشرين ، متماسكاً على نفسي ، كأنني قربة منفوخة . ورائي قصة نجاح فذ في المدرسة ، كل سلاحي هذه المدية الحادة في جمجمتي ، وفي صدري إحساس بارد جامد ، كأن جوف صدري مصبوب بالصخر ولما ابتلعت اللجة الساحل ، وهاج الموج تحت السفينة ، وإستدار الأفق الأزرق حوالينا ، أحسست تواً بألفة غامرة للبحر . إنني أعرف هذا العملاق الأخضر اللامنتهي ، كأنه يمور بين ضلوعي . واستمرأت طيلة الرحلة ذلك الإحساس في أني في مكان ، وحدي ، أمامي وخلفي الأبد أو لا شيء وصفحة البحر حين يهدأ سراب آخر ، دائم التبدل والتحول ، مثل القناع الذي على وجه أمي . هنا أيضاً صحراء مخضرة مزرقة ممتدة ، تناديني ، تناديني . وقادني النداء الغريب إلى ساحل دوفر ، وإلى لندن ، وإلى المأساة . لقد سلكت ذلك الطريق بعد ذلك عائداً وكنت أسائل نفسي طوال الرحلة ، هل كان من الممكن تلافي شيء مما وقع ؟ وتر القوس مشدود ، ولابد أن ينطلق السهم . ,انظر إلى اليسار واليمين ، إلى الخضرة الداكنة ، والقرى السكسونية القائمة على حوافي التلال . سقوف البيوت حمراء ، محدودبة كظهور البقر ، وثمة غلالة شفافة من الضباب ، منشورة فوق الوديان . ما أكثر الماء هنا وما أرحب الخضرة. وكل تلك الألوان . ورائحة المكان غريبة ، كرائحة جسد مسز رونسن . والأصوات لها وقع نظيف في أذني ، مثل حفيف أجنحة الطير . هذا عالم منظم ، بيوته وحقوله وأشجاره مرسومة وفقاً لخطة . الغدران كذلك لا تتعرج ، بل تسيل بين شطآن صناعية . ويقف القطار في المحطة ، بضع دقائق . يخرج الناس مسرعين ، ويدخلون مسرعين ، ثم يتحرك القطار . لا ضوضاء . وفكرت في حياتي في القاهرة . لم يحدث شيء ليس في الحسبان . زادت معلوماتي . وحدثت لي أحداث صغيرة ، وأحبتني زميلة لي ثم كرهتني وقالت لي : " أنت لست إنساناً . أنت آلة صماء " . تسكعت في شوارع القاهرة ، وزرت الأوبرا ، ودخلت المسرح ، وقطعت النيل سابحاً ذات مرة . ولم يحدث شيء إطلاقا ، سوى أن القربة زادت انتفاخاً ، وتوتر وتر القوس . سينطلق السهم نحو آفاق أخرى مجهولة . وانظر إلى دخان القطار ، يتلاشى ، حيث تهب به الريح ، في غلالة الضباب المنتشرة في الوديان . وأخذتني سنة من النوم . وحلمت أنني أصلي وحدي في جامع القلعة . كان المسجد مضاء بآلاف الشمعدانات ، والرخام الأحمر يتوهج ، وأنا وحـدي أصلي . واستيقظ وفي أنفي رائحة البخـور ، فإذا القطار يقترب من لندن . القاهرة مدينة ضاحكة ، وكذلك مسز روبنسن . كانت تريدني أن أناديها باسمها الأول ، اليزابيت ، لكنني كنت أناديها باسم زوجها . تعلمت منها حب موسيقى باخ ، وشعر كيتس ، وسمعت عن مارك توين لأول مرة منها . لكني لم أكن أستمتع بشيء , وتضحك مسز روبنسن وتقول لي : " ألا تستطيع أن تنسى عقلك أبداً ؟ " هل كان من الممكن تلافي شيء مما حدث ؟ كنت عائداً حينذاك وتذكرت ما قاله لي القسيس ، وأنا في طريقي إلى القاهرة : " كلنا يا بني نسافر وحدنا في نهـاية الأمر " . كانت يده تتحسس الصليب على صدره . وأضاءت وجهه ابتسامة كبيرة وأردف : " أنك تتحدث الانكليزية بطلاقة مذهلة " . اللغة التي أسمعها الآن ليست كاللغة التي تعلمتها في المدرسة . وهذه أصوات حية ، لها جرس آخر . كان عقلي كأنه مدية حادة . لكن اللغة ليست لغتي . تعلمت فصاحتها بالممارسة . وحملني القطار إلى محطة فكتوريا ، وإلى عالم جين مورس .
كل شيء حدث قبل لقائي إياها ، كان إرهاصا . وكل شيء فعلته بعد أن قتلتها كان اعتذاراً ، لا لقتلها ، بل لأكذوبة حياتي . كنت في الخامسة والعشرين حين لقيتها ، وفي حفل في تشلسي . الباب ، وممر طويل يؤدي إلى القاعة . فتحت الباب ، وتريثت ، وبدت لعيني تحت ضوء المصباح الباهت كأنها سراب لمع في صحراء . كنت مخموراً ، كأسي بقي ثلثاً ، وحولي فتاتان ، أتفحش معهما ، تضحكان , وجاءت تسعى نحونا بخطوات واسعة ، تضع ثقل جسمها على قدمها اليمنى ، فيميل قبالتي ونظرت إلى بصلف وبرود .. وشيء آخر . وفتحت فمي لأتكلم ، لكنها ذهبت , وقلت لصاحبتي " من هذه الأنثى ؟ " .
كانت لندن خارجة من الحرب ومن وطأة العهد الفكتوري . عرفت حانات تشلسي ، وأندية هامبستد ، ومنتديات بلومزبري . اقرأ الشعر ، وأتحدث في الدين والفلسفة ، وانقد الرسم ، وأقول كلاماً عن روحانيات الشرق . أفعل كل شيء حتى أدخل المرأة في فراشي . ثم أسير إلى صيد آخر . لم يكن في نفسي قطرة من المرح ، كما قالت مسز روبنسن . جلبت النساء إلى فراشي من بين فتيات جيش الخلاص ، وجمعيات الكويكرز ، ومجتمعات الفابيانيين . حين يجتمع حزب الأحرار أو العمال أو المحافظين الشيوعيين ، أسرج بعيري وأذهب . وفي المرة الثانية ، قالت لي جين مورس : " أنت بشع . لم أر في حياتي وجهاً بشعاً كوجهك " . وفتحت فمي لأتكلم لكنها ذهبت . وحلفت في تلك اللحظة ، وأنا سكران أنني سأتقاضاها الثمن في يوم من الأيام . وصحوت وآن همند إلى جواري في الفراش . أي شيء جذب آن همند إليّ ؟ أبوها ضابط في سلاح المهندسين ، وأمها من العوائل الثرية في لفربول كانت صيداً سهلاً ، لقيتها وهي دون العشرين ، تدرس اللغات الشرقية في أكسفورد . كانت حية ، وجهها ذكي مرح وعيناها تبرقان بحب الاستطلاع . رأتني فرأت شفقاً داكناً كفجر كاذب . كانت عكسي تحن إلى مناخات استوائية ، وشموس قاسية ، وآفاق أرجوانية . كنت في عينها رمزاً لكل هذا الحنين . وأنا جنوب يحن إلى الشمال والصقيع . وآن همند قضت طفولتها في مدرسة راهبات . عمتها زوجة نائب في البرلمان . حولتها في فراشي إلى عاهرة . غرفة نومي مقبرة تطل على حديقة ، ستائرها وردية منتقاة بعناية ، وسجاد سندسي دافئ والسرير رحب مخداته من ريش النعام . وأضواء كهربائية صغيرة ، حمراء وزرقاء ، وبنفسجية ، موضوعة في زوايا معينة . وعلى الجدران مرايا كبيرة ، حتى إذا ضاجعت امرأة ، بدأ كأنني أضاجع حريماً كاملاً في آن واحد . تعبق في الغرفة رائحة الصندل المحروق والند ، وفي الحمام عطور شرقية نفاذة ، وعقاقير كيمائية ، ودهون ، مساحيق ، وحبوب . غرفة نومي كانت مثل غرفة عمليات في مستشفى . ثمة بركة ساكنة في أعماق كل امرأة . كنت أعرف كيف أحركها . وذات يوم وجدوها ميتة انتحاراً بالغاز ووجدوا ورقة صغيرة باسمي . ليس فيها سوى هذه العبارة : مستر سعيد . لعنة الله عليك " . كان عقلي كأنه مدية حادة . وحملني القطار إلى محطة فكتوريا . وإلى عالم جين مورس .
في قاعة المحكمة الكبرى في لندن ، جلست أسابيع أستمع إلى المحامين يتحدثون عني ، كأنهم يتحدثون عن شخص لا يهمني أمره . كان المدعي العمومي سير آرثر هنغنز عقل مربع ، أعرفه تمام المعرفة ، علمني القانون في أكسفورد ، ورأيته من قبل ، في المحكمة نفسها وفي هذه القاعة ، يعتصر المتهمين في قفص الاتهام اعتصارا . نادراً ما كان يلفت متهم من يده . ورأيت متهمين يبكون ويغمى عليهم ، بعد أن يفرغ من استجوابهم . لكنه هذه المرة كان يصارع جثة .
" هل تسببت في انتحار آن همند ؟ "
" لا أدرى "
" وشيلا غرينود ؟ "
" لا أدري "
" وإيزابيلا سيمور ؟ "
" لا أدري "
" هل قتلت جين مورس ؟ "
" نعم "
كان صوته كأنما يصلني من عالم آخر . ومضى الرجل يرسم بحدق صورة مريعة لرجل ذئب ، تسبب في انتحار فتاتين ، وحطم امرأة متزوجة ، وقتل زوجته ، رجل أناني ، انتصبت حياته كلها على طلب اللذة . ومرة خطر لي في غيبوبتي ، وأنا جالس هناك أستمع إلى أستاذي ، بروفسور ماكسول فستر كين ، يحاول أن يخلصني من المشنقة ، أن أقف وأصرخ في المحكمة : " هذا المصطفى سعيد لا وجود له . إنه وهم ، أكذوبة . وإنني أطلب منكم أن تحكموا بقتل الأكذوبة . لكنني كنت هامداً مثل كومة رماد . ومضى برفسور ماكسول فستر كين يرسم صورة لعقل عبقري دفعته الظروف إلى القتل ، في لحظة غيرة وجنون . روى لهم كيف أنني عينت محاضراً للاقتصاد في جامعة لندن ، وأنا في الرابعة والعشرين . قال لهم أن " آن همند " و " شيلا غرينود " كانتا فتاتين تبحثان عن الموت بكل سبيل ، وأنهما كانتا ستنتحران سواء قابلتا مصطفى سعيد أو لم تقابلاه . " مصطفى سعيد يا حضرات المحلفين إنسان نبيل ، استوعب عقله حضارة الغرب ، لكنها حطمت قلبه . هاتان الفتاتان لم يقتلهما مصطفى سعيد ولكن حطمت قلبه . هاتان الفتاتان لم يقتلهما مصطفى سعيد ولكن قتلهما جرثوم مرض عضال أصابهما منذ ألف عام " . وخطر لي أن أقف وأقول لهم : " هذا زور وتلفيق . قتلتهما أنا . أنا صحراء الظمأ . أنا لست عطيلا . أنا أكذوبة . لماذا لا تحكمون بشنقي فتقتلون الأكذوبة ! " . لكن بروفسور فستر كين حوّل المحاكمة إلى صراع بين عالمين ، كنت أنا أحدى ضحاياه . وحملني القطار إلى محطة فكتوريا ، وإلى عالم جين مورس .
لبثت أطاردها ثلاثة أعوام . كل يوم يزداد وتر القوس
توتراً ، قربي مملوءة هواء ، وقوافلي ظمأى ، السراب يلمع أمامي في متاهة الشوق ، وقد تحدد مرمى السهم ، ولا مفر من وقوع المأساة . وذات يوم قالت لي : " أنت ثور همجي لا يكل من الطراد . إنني تعبت من مطاردتك لي ، ومن جريي أمامك . تزوجني " . وتزوجتها . غرفة نومي صارت ساحة حرب . فراشي كان قطعة من الجحيم . أمسكها فكأنني أمسك سحابا ، كأنني أضاجع شهابا ، كأنني أمتطي صهوة نشيد عسكري بروسي . وتفتأ تلك الابتسامة المريرة على فمها . أقضي الليل ساهراً ، أخوض المعركة بالقوس والسيف والرمح والنشاب ، وفي الصباح أرى الابتسامة ما فتئت على حالها ، فأعلم أنني خسرت الحرب مرة أخرى . كأنني شهريار رقيق ـ تشتريه في السوق بدينار ، صادف شهر زاد متسولة في أنقاض مدينة قتلها الطاعون . كنت أعيش مع نظريات كينز وتوني بالنهار ، وبالليل أواصل الحرب بالقوس والسيف والرمح والنشاب . رأيت الجنود يعودون ، يملؤهم الذعر ، من حرب الخنادق والقمل والوباء . رأيتهم يزرعون بـذور الحرب القادمة في معاهدة فرسـاي ، رأيت لويـد جورج يضـع أُسس دولة الرفاهية العـامة . وانقلبت المدينة إلى امرأة عجيبة ، لها رموز ونداءات غامضة ، ضربت إليها أكباد الإبل ، وكاد يقتلني في طلابها الشوق ، غرفة نومي ينبوع حزن ، جرثوم مرض فتاك . العدوى أصابتهن منذ ألف عام ، لكنني هيجت كوامن الداء حتى استفحل وقتل . وكان المغنون يرددون أهازيج الحب الحقيقي والمرح في مسارح لستر سكوير ، فلم يخفق لها قلبي . من كان يظن أن شيلا غرينود تقدم على الانتحار ؟ خادمة في مطعم في سوهو . بسيطة حلوة المبسم ، حلوة الحديث . أهلها قرويون من ضواحي هل . أغريتها بالهدايا والكلام المعسول ، والنظرة التي ترى الشيء فلا تخطئه . جذبها عالمي الجديد عليها . دوختها رائحة الصندل المحروق والند ، ووقفت وقتاً تضحك لخيالها في المرآة ، وتعبث بعقد العاج الذي وضعته كأنشوطة حول جيدها الجميل . دخلت غرفة نومي بتولاً بكراً ، وخرجت منها تحمل جرثوم المرض في دمها . ماتت دون أن تنبس ببنت شفة . ذخيرتي من الأمثال لا تنفد . ألبس لكل حالة لبوسها ، شنى يعرف متى يلاقي طبقه .
" أليس صحيحاً أنك في الفترة ما بين أكتوبر 1922 وفبراير 1923 ، في هذه الفترة وحدها على سبيل المثال ، كنت تعيش مع خمس نساء في آن واحد ؟ ".
"بلى " .
" وانك كنت توهم كلاً منهن بالزواج ؟ "
" بلى " .
" وانك انتحلت إسماً مختلفاً مع كل منهن ؟ "
" بلى " .
" انك كنت حسن ، تشارلز ، وأمين ، ومصطفى ، ورتشارد ؟ "
" بلى " .
" مع ذلك كنت تكتب وتحاضر عن الاقتصاد المبني على الحب لا على الأرقام ؟ أليس صحيحاً انك أقمت شهوتك بدعوتك الإنسانية في الاقتصاد ؟ "
" بلى " .

ثلاثون عاماً . كان شجر الصفصاف يبيض ويخضر ويصفر في الحدائق ، وطير الوقواق يغني للربيع كل عام . ثلاثون عاما وقاعة البرت تغص كل ليلة بعشاق بيتهوفن وباخ ، والمطابخ تخرج آلاف الكتب في الفن والفكر . مسرحيات برنارد شو ثمثل في الرويال كورت والهيماركت . كانت ايدث ستول تغرد بالشعر ، ومسرح البرنس اف ويلز يفيض بالشباب والألق . البحر في مده وجزره في بورتمث وبرايتن ، ومنطقة البحيرات تزدهي عاماً بعد عام . الجزيرة مثل لحن عذب ، سعيد حزين ، في تحول سرابي مع تحول الفصول . ثلاثون عاماً وأنا جزء من كل هذا ، أعيش فيه ، ولا أحس جماله الحقيقي ولا يعنيني منه إلا ما يملأ فراشي كل ليلة .
نعم . في الصيف . قالوا أن صيفاً مثله لم يأتهم منذ مائة عام . خرجت من داري يوم سبت اشمشم الهواء ، وأحس بأنني مقبل علي صيد عظيم . وصلت ركن الخطباء في حديقة هايد بارك . كان غاضاً بالخلق . وقفت عن بعد أستمع إلى خطيب من جزر الهند الغربية يتحدث عن مشكلة الملونين . استقرت عيني فجأة على امرأة تشرئب بعنقها لرؤية الخطيب ، فيرتفع ثوبها إلى ما فوق الركبتين ، مظهراً ساقين ملتفتين من البرونز . نعم هذه فريستي , وسرت إليها ، كالقارب يسير إلى الشلال . ووقفت رواءها ، والتصقت حتى أحسست بحرارتها تسري إلى . وشممت رائحة جسدها ، تلك الرائحة التي استقبلتني بها مسز روبنسون على رصيف محطة القاهرة . واقتربت منها حتى أحست بي ، فالتفتت إلى فجأة ، فابتسمت في وجهها ابتسامة لم أكن أعلم مصيرها ، لكنني عومت على ألا تضيع هباء . وضحكت أيضاً ، حتى لا تنقلب الدهشة في وجهها إلى عداء فابتسمت . ووفقت إلى جانبها نحواً من ربع الساعة ، أضحك حين يضحكها قول الخطيب ، وأضحك بصوت مرتفع لكي تسري فيها عدوى الضحك ، حتى جاءت لحظة ، أحسست فيها أنني وهي صرنا كفرس ومهرة ، يركضان في تناسق ، جنباً إلى جنب , وهنا خرج الصوت من حلقي ، كأنه ليس صوتي : " ما رأيكِ في شراب ، بعيداً عن هذا الزحام والحر ؟ " أدارت رأسها بدهشة ، فابتسمت هذه المرة ابتسامة عريضة بريئة ، حتى أحول الدهشة إلى حب استطلاع على الأقل . وفي أثناء ذلك تفرست في وجهها ، فوجدت كل سمة من سماته يزيدني اقتناعاً بأن هذه فريستي . كنت أعلم ، بطبيعة المقامر ، أن تلك اللحظة حاسمة . كل شيء في هذه اللحظة محتمل . وتحولت ابتسامتي إلى سرور كاد يفلت زمامه من يدي حين قالت : " نعم . ولم لا ؟ " وسرنا معاً ، أحس بها إلى جانبي وهجاً من البرونز تحت شمس يوليو ، أحس بها مدينة من الأسرار والنعيم . وسرني أنها تضحك بسهولة . هذه السيدة ، نوعها كثير في أوربا ، نساء لا يعرفن الخوف ، يقلبن على الحياة بمرح وحب استطلاع . وأنا صحراء الظمأ ، متاهة الرغائب الجنوبية . وسألتني ونحن نشرب الشاي عن بلدي . رويت لها حكايات ملفقة عن صحاري ذهبية الرمال ، وأدغال تتصايح فيها حيوانات لا وجود لها . قلت لها أن شوارع عاصمة بلادي تعج بالأفيال والأسود ، وتزحف عليها التماسيح عند القيلولة . وكانت تستمع إليّ بين مصدقة ومكذبة . تضحك ، وتغمض عينيها ، وتحمر وجنتاها . وأحياناً تصغي إلى في صمت ، وفي عينيها عطف مسيحي . وجاءت لحظة أحسست فيها أنني انقلبت في نظرها مخلوقاً بدائياً عارياً ، يمسك بيده رمحاً ، وبالأخرى نشاباً ، يصيد الفيلة والأسود في الأدغال . هذا حسن . لقد تحول حب الاستطلاع إلى مرح ، وتحول المرح إلى عطف ، وحين أحرك البركة الساكنة في الأعماق ، سيستحيل العطف إلى رغبة أعزف على أوتارها المشدودة كما يحلو لي . وسألتني : " ما جنسك ؟ هل أنت أفريقي أم أسيوي ؟ "
قلت لها : " أنا مثل عطيل . عربي أفريقي " .
نظرت إلى وجهي وقالت : " نعم . أنفك مثل أنوف العرب في الصور . لكن شعرك ليس فاحماً ناعماً مثل شعر العرب " .
" نعم ؟ هذا أنا . وجهي عربي كصحراء الربع الخالي ، ورأسي أفريقي يمور بطفولة شريرة " .
ضحكت وقالت : " أنت تصور الأشياء بشكل غريب " . وقادنا الحديث إلى أهلي ، فقلت لها ، غير كاذب هذه المرة ، أنني يتيم وليس لي أهل . ثم عدت إلى الكذب ، فوصفت لها وصفاً مهولاً كيف فقدت والدي ، حتى رأيت الدمع يطفر إلى عينيها . قلت لها أنني كنت في السادسة من عمري ، حين غرق والداي مع ثلاثين آخرين في مركب كان بعبر بهم النيل من شاطيء إلى شاطيء . وهنا حدث شيء كان أفضل من الرثاء . الرثاء في مثل هذه الأمور عاطفة غير مضمونة العواقب . لمعت عيناها ، وصاحت في نشوة : " نايل ؟ " .
" نعم النيل " .
" أنتم تسكنون على ضفاف النيل ؟ "
" أجل ، بيتنا على ضفة النيل تماماً بحيث أنني كنت إذا استيقظت على فراشي ليلاً ، اخرج يدي من النافذة وأداعب ماء النيل حتى يغلبني النوم " .
الطائر يا مستر مصطفى قد وقـع في الشرك . النيل ، ذلك الإله الأفعى ، قد فاز بضحية جديدة . المدينة قد تحولت إلى امرأة . وما هو إلاّ يوم أو أسبوع ، حتى أضرب خيمتي ، واغرس وتدي في قمة الجبل . أنت يا سيدتي قد لا تعلمين ، ولكنك ، مثل "كارنارفون " حين دخل قبر توت عنخ آمون ، قد أصابك داء فتاك لا تدرين من أين أتى ، سيؤدي بك إن عاجلاً وان آجلاً . ذخيرتي من الأمثال لا تنفذ . شنى يعرف متى يلاقي طبقه . وأحسست بزمام الحديث في يدي ، كفنان مهره مطواع ، أشده فتقف ، أهزه فتمشي ، أحركه فتتحرك وفقاً لإرادتي ، إن يميناً وإن شمالا . وقلت لها :
" مضت ساعتان دون أن أحس بهما . لم أحس بمثل هذه السعادة منذ زمن بعيد وبقي كثيراً قوله لك وتقولينه لي . ما رأيك في أن نتمشى معاً ، نواصل الحديث ؟ "
صمتت برهة ، فلم أقلق ، لأنني أحسست بذلك الدفء الشيطاني ، تحت الحجاب الحاجز حين أحسه أعلم أنني مسيطر على زمام المواقف . لا ، أنها لن تقول لا . وقالت : " هذا لقاء عجيب . رجل غريب لا أعرفه يدعوني . هذا لا يجوز ، لكن .. " وصمتت ثم قالت : " نعم . لم لا ؟ هيئتك لا تدل على أنك من آكلة لحوم البشر " .
قلت لها ، وموجة الفرح تتحرك في ، جذور قلبي : " ستجدني أنني تمساح عجوز سقطت أسنانه . لن أقوى على أكلك حتى لو أردت " . قدرت أنني أصغرها بخمسة عشر عاماً على الأقل ، امرأة في حدود الأربعين ، مهما حدثت لها من التجارب فإن الزمن قد عامل جسدها بحنو . التجاعيد الدقيقة على جبهتها وعلى أركان فمها لا تقول لك أنها شاخت ، بل تقول أنها نضجت .
حينئذ فقط سألتها عن اسمها فقالت : " إيزابيلا سيمور " . رددته مرتين ، وأنا أملأ به فمي ، كأنني آكل ثمرة كمثري .
" وأنت ما اسمك ؟ " .
" أنا .. أمين . أمين حسن " .
" سأسميك حسن " .
ومع الشواء والنبيذ ، انفرجت أساريرها ، وتدفق حب تحس به نحو العالم بأسره ، عليّ أنا . وأنا لا يعنيني حبها للعالم . ولا سحابة الحزن التي تعبر وجهها من آن لآن ، بقدر ما تعنيني حمرة لسانها حين تضحك ، واكتناز شفتيها ، والأسرار الكامنة في قاع فمها . وتخيلتها عارية ، وأفحشت التخيل وهي تقول لي : " الحياة مليئة بالألم . لكن يجب علينا أن نتفاءل ، ونواجه الحياة بشجاعة " .

نعم أنا أعلم الآن أن الحكمة القريبة المنـال ، تخرج من أفواه البسطاء ، هي كل أملنا في الخلاص . الشجرة تنمو ببساطة ، وجدك عاش وسيموت ببساطة . ذلك هو السر. صدقت يا سيدتي ، الشجاعة والتفاؤل . لكن إلى أن يرث المستضعفون الأرض ، وتسرح الجيوش ، ويرعى الحمل آمناً بجوار الذئب ، ويلعب الصبي كرة الماء مع التمساح في النهر ، إلى أن يأتي زمان السعادة والحب هذا ، سأظل أنا أعبر عن نفسي بهذه الطريقة الملتوية . وحين أصل لاهثاً قمة الجبل ، وأغرس البيرق ، ثم ألتقط أنفاسي وأستجم – تلك يا سيدتي نشوة أعظم عندي من الحب ، ومن السعادة . ولهذا ، فأنا لا أنوي بك شراً ، إلا بقدر ما يكون البحر شريراً ، حين تتحطم السفن على صخوره ، وبقدر ما تكون الصاعقة شريرة حين تشق الشجرة نصفين . وتركزت الفكرة الأخيرة في رأسي ، بشعيرات على ذراعها الأيمن ، قريباً من الرسغ ، ولاحظت أن شعر ذراعيها أكثف مما هو عند النساء عادة ، وقادني هذا إلى شعر آخر . لابد أنه ناعم غزير مثل نبات السعدة على حافة الجدول . وكأنما سرت الفكرة من ذهني إليها ، فاعتدلت في جلستها وقالت : " ما بالك تبدو حزيناً ؟ "
" هل أبدو حزيناً ؟ أنا على العكس ، سعيد جداً " .
وعادت النظرة الحانية إلى عينيها ، ومدت يدها فأمسكت يدي وقالت . " هل تدري أن أمي اسبانية ؟ "
" هذا إذا يفسر كل شيء . يفسر لقاءنا صدفة ، وتفاهمنا تلقائياً ، كأننا تعارفنا منذ قرون . لابد أن جدي كان جندياً في جيش طارق بن زياد . ولابد أنه قابل جدتك ، وهي تجني العنب في بستان في اشبيلية ولابد أنه أحبها من أول نظرة ، وهي أيضاً أحبته, وعاش معها فترة ثم تركها وذهب إلى أفريقيا , وهناك تزوج . وخرجت أنا من سلالته في أفريقيا ، وأنت جئت من سلالته في اسبانيا " .
هذا الكلام ، والضوء الخافت أيضاً والنبيذ ، أسعدها ، فقرقرت لهاتها بالضحك وقالت : " يا لك من شيطان " .
وتخيلت برهة لقاء الجنود العرب لأسبانيا . مثلي في هذه اللحظة ، أجلس قبالة إيزابيلا سيمور ، ظمأ جنوني تبدد في شعاب التاريخ في الشمال . إنما أنا لا أطالب المجد ، فمثلي لا يطلب المجد .
وأدرت مفتاح الباب بعد شهر من حمى الرغبة ، وهي إلى جانبي ، أندلس خصب ، وقدتها بعد ذلك عبر الممر القصير إلى غرفة النوم ، ولفحتها رائحة الصندل المحروق والند ، فملأت رئتيها بعبير لم تكن تعلم أنه عبير قاتل . كنت تلك الأيام ، حين تصبح القمة مني على مد الذراع ، يعتريني هدوء تراجيدي . كل الحمى والوجيب في القلب ، والتوتر في العصب ، يتحول إلى هدوء جراح وهو يشق بطن المريض . وكنت أعلم أن الطريق القصير الذي شرناه معاً إلى غرفة النوم ، كان بالنسبة لها مضيئاً ، يعبق بعبير التسامح والمحبة ، وكان بالنسبة لي الخطوة الأخيرة ، قبل الوصول إلى قمة الأنانية وتريثت عند حافة الفراش ، كأنني الخص تلك اللحظة في ذهني ، وألقيت نظرة موضوعية على الستائر الوردية المراءات الكبيرة ، والأضواء الحذرة في أركان الحجرة ثم على تمثال البرونز المكتمل التكوين أمامي . ونحن في قمة المأساة صرخت بصوت ضعيف : " لا . لا . " . هذا لا يجديك نفعاً الآن . لقد ضاعت اللحظة الخطيرة حين كان بوسعك الامتناع عن إتخاذ الخطوة الأولى . أنني أخذتك على غرة ، وكان بوسعك حينئذ أن تقولي " لا " . أما الآن فقد جرفك تيار الأحداث ، كما يجرف كل إنسان ، ولم يعد في مقدورك فعل شيء . لو أن كل إنسان عرف متى يمتنع عن اتخـاذ الخطوة الأولى ، لتغيرت أشياء كثيرة . هل الشمس شريرة حين تحيل قلوب ملايين البشر إلى صحاري تتعارك رمالها ويجف فيها حلق العندليب ؟ وتريثت وأنا أمسح براحة يدي ظاهر عنقها ، واقبلها في منابع الإحساس . ومع كل لمسة ، مع كل قبلة ، أحس أن عضلة في جسدها ترتخي ، وتألق وجهها ولمعت عيناها ببريق خاطف ، واستطالت نظراتها كأنها تنظر إلى فتراني رمزاً ليس حقيقة . وسمعتها تقول لي بصوت متضرع مستسلم : " أحبك " ، فجاوب صوتها هتاف ضعيف في أعماق وعيي يدعوني أن أقف . لكن القمة صارت على بعد خطوة ، وبعد ذلك التقط أنفاسي واستجم . ونحن في قمة الألم عبرت برأسي سحائب ذكريات بعيدة قديمة كبخار يصعد من بحيرة مالحة وسط الصحراء . وانفجرت هي ببكاء ممض محرق ، واستسلمت أنا إلى نوم متوتر محموم .

Recordings

  • موسم الهجرة إلى الشمال - فصل ٢ ( recorded by mohamedstryker ), Arabic

    Download Unlock
    Corrected Text
    more↓

    انها قصة طويلة . لكنني لن أقول لك كل شيء . وبعض التفاصيل لن تهمك كثيراً ، وبعضها ... المهم أنني كما ترى ولدت بالخرطوم . نشأت يتيماً ، فقد مات أبي قبل أن أولد ببضعة أشهر ، لكنه ترك لنا ما يستر الحال . كان يعمل في تجارة الجمال . لم يكن لي أخوة ، فلم تكن الحياة عسيرة عليّ وعلى أمي . حين أرجع الآن بذاكرتي ، أراها بوضوح ، شفتاها الرقيقتان مطبقتان في حزم ، وعلى وجهها شيء مثل القناع . لا أدري . قناع كثيف ، كأن وجهها صفحة بحر ، هل تفهم ؟ ليس له لون واحد بل ألوان متعددة ، تظهر وتغيب وتتمازج . لم يكن لنا أهل . كنا ، أنا وهي ، أهلاً بعضنا لبعض . كانت كأنها شخص غريب جمعتني به الظروف صدفة في الطريق . لعني كنت مخلوقاً غريباً ، أو لعل أمي كانت غريبة . لا أدري لم نكن نتحدث كثيراً ، وكنت ، لعلك تعجب ، أحس احساساً دافئاً بأنني حر ، بأنه ليس ثمة مخلوق أب أو أم ، تربطني كالوتد إلى بقعة معينة ومحيط معين . كنت وأنام ، أخرج وأدخل ، ألعب خارج البيت ، أتسكع في الشوارع ، ليس ثمة أحد يأمرني أو ينهاني إلا أنني منذ صغري ، كنت أحس بأنني أنني مختلف . أقصد أنني لست كبقية الأطفال في سني ، لا أتأثر بشيء لا أبكي إذا ضربت ، لا أفرح إذا أثنى عليّ المدرس في الفصل ، لا أتألم لما يتألم له الباقون . كنت مثل شيء مكور من المطاط ، تلقيه في الماء فلا يبتل ، ترميه على الأرض فيقفز . كان ذلك الوقت أول عهدنا بالمدارس أذكر الآن الناس كانوا غير راغبين فيها . كانت الحكومة تبعث أعوانها يجوبون البلاد والأحياء ، فيخفي الناس أبناءهم . كانوا يظنونها شراً عظيماً جاءهم مع جيوش الاحتلال . كنت ألعب مع الصبية خارج دارنا ، فجاء رجل على فرس ، في زي رسمي ، ووقف فوقنا . جرى الصبية ، وبقيت أنظر إلى الفرس وإلى الرجل فوقه . سألني عن اسمي فأخبرته . قال لي كم عمرك ، فقلت له لا أدري . قال لي : " هل تحب أن تتعلم في المدرسة ؟ " قلت له : " ما هي المدرسة ؟ " فقال لي : بناء جميل من الحجر وسط حديقة كبيرة على شاطئ النيل . يدق الجرس وتدخل الفصل مع التلاميذ . تتعلم القراءة والكتابة والحساب . قلت للرجل : " هل ألبس عمامة كهذه ؟ " وأشرت إلى شيء كالقبة فوق رأسه . فضحك الرجل وقال لي : " هذه ليست عمامة . هذه برنيطة . قبعة " . وترجل عن فرسه ووضعها فوق رأسي فغاب وجهي كله فيها . ثم قال الرجل : " حين تكبر ، وتخرج من المدرسة ، وتصير موظفاً في الحكومة ، تلبس قبعة كهذه " قلت للرجل : " أذهب للمدرسة " . أردفني الرجل خلفه فوق الحصان ، وحملني إلى مكان ، كما وصفه ، من الحجر ، على ضفة النيل ، تحيط به أشجار وأزهار . ودخلنا على رجل ذي لحية ، يلبس جبة ، فقام وربت على رأسي ، وقال لي : " لكن أين أبوك ؟ " فقلت لن أن أبي ميت . فقال لي : " من ولي أمرك ؟ " قلت له : " أريد أن أدخل المدرسة " . نظر إليّ الرجل بعطف ، ثم قيدوا اسمي في سجل ، وسألوني كم عمرك فقلت لهم لا أدري . وفجأة دق الجرس . فررت منهم ، ودخلت إحدى الحجرات فجاء الرجلان وساقاني إلى حجرة أخرى وأجلساني في مقعد بين صبية آخرين . عدت إلى أمي في الظهر فسألتني أين كنت ، فحكيت لها القصة . نظرت إليّ برهة نظرة غامضة ، كأنها أرادت أن تضمني إلى صدرها . فد رأيت وجهها يصفو برهة ، وعينيها تلمعان ، وشفتيها تفتران كأنها تريد أن تبتسم ، أو تقول شيئاً . لكنها لم تقل شيئاً . وكانت تلك نقطة تحول في حياتي . كان ذلك أول قرار اتخذته ، بمحض إرادتي .
    إنني لا أطلب منك أن تصدق ما أقوله لك . لك أن تعجب وأن تشك . أنت حر . هذه وقائع مضى عليها وقت طويل ، وهي كما ترى الآن ، لا قيمة لها . أقولها لك لأنها تحضرني ، لأن الحوادث بعضها يذكر بالبعض الآخر . المهم أنني انصرفت بكل طاقاتي لتلك الحياة الجديدة . وسرعان ما اكتشفت في عقلي مقدرة عجيبة على الحفظ والاستيعاب والفهم . أقرأ الكتاب فيرسخ جملة في ذهني . ما ألبث أن أركز عقلي في مشكلة الحساب حتى تتفتح لي مغالقها ، تذوب بين يدي كأنها قطعة ملح وضعتها في الماء . تعلمت الكتابة في أسبوعين ، وانطلقت بعد ذلك لا ألوي على شيء . عقلي كأنه مدية حادة ، تقطع فر برود وفعالية . لم أبال بدهشة المعلمين وإعجاب رفقائي أو حسدهم . كان المعلمون ينظرون إليّ كأنني معجزة ، وبدأ التلاميذ يطلبون ودي . لكنني كنت مشغولاً بهذه الآلة العجيبة التي أتيحت لي . وكنت بارداً كحقل جليد ، لا يوجد في العالم شيء يهزني . طويت المرحلة الأولى في عامين ، وفي المدرسة الوسطى اكتشفت ألغازاً منها اللغة الانكليزية . فمضى عقلي يعض ويقطع كأسنان محراث . الكلمات والجمل تتراءى لي كأنها معادلات رياضية ، والجبر والهندسة كأنها رقعة شطرنج . كانت المرحلة الوسطى أقصى غاية يصل إليها المرء في التعليم تلك الأيام . وبعد ثلاثة أعوام ، قال لي ناظر المدرسة ، وكان انكليزياً : " هذه البلد لا تتسع لذهنك ، فسافر . أذهب إلى مصر أو لبنان أو انكلترا . ليس عندنا شيء نعطيك إياه بعد الآن " . قلت له على الفور : " أريد أن أذهب إلى القاهرة " . فسهّل لي ، فيما بعد ، السفر ، والدخول مجاناً في مدرسة ثانوية في القاهرة ، ومنحة دراسية من الحكومة . وهذه حقيقة في حياتي ، كيف قيضت الصدف لي قوماً ساعدوني وأخذوا بيدي في كل مرحلة ، قوماً لم أكن أحس تجاههم بأي إحساس بالجميل . كنت أتقبل مساعدتهم ، كأنها واجب يقومون به نحوي .
    حين أخبرني ناظر المدرسة بأن كل شيء أُعد لسفري للقاهرة ، ذهبت إلى أمي وحدثتها . نظرت إلى مرة أخرى ، تلك النظرة الغربية . افترت شفتاها لحظة كأنها تريد أن تبتسم ـ ثم أطبقتها وعاد وجهها كعهده ، قناعاً كثيفاً ، بل مجموعة أقنعة . ثم غابت قليلاً ، وجاءت بصرَّة وضعتها في يدي ، وقالت لي : " لو أن أباك عاش ، لما أختار لك غير ما اخترته لنفسك . افعل ما تشاء . سافر . أو أبق ، أنت وشأنك . انها حياتك ، وأنت حر فيها . في هذه الصرة ما تستعين به " . كان ذلك وداعنا . لا دموع ولا قبل ولا ضوضاء . مخلوقات سارا شطراً من الطريق معاً ، ثم سلك كل منهما سبيله . وكان ذلك في الواقع آخر ما قالته لي ، فأنني لم أرها بعد ذلك . بعد سنوات طويلة ، وتجارب عدة ، تذكرت تلك اللحظة ، وبكيت . أما الآن ، فأنني لم أشعر بشيء على الإطلاق . جمعت متاعي في حقيبة صغيرة ، وركبت القطار . لم يلّوح أحد بيده ولم تنهمر دموعي لفراق أحد . وضرب القطار في الصحراء ، ففكرت قليلاً في البلد الذي خلفته ورائي ، فكان مثل جبل ضربت خيمتي عنده ، وفي الصباح قلعت الأوتاد وأسرجت بعيري ، وواصلت رحلتي . وفكرت في القاهرة ونحن في وادي حلفا ، فتخيلها عقلي جبلاً آخر ، أكبر حجماً، سأبيت عنده ليلة أو ليلتين ، ثم أواصل الرحلة إلى غاية أخرى .
    أذكر أنني جلست في القطار قبالة رجل في مسوح وعلى رقبته صليب كبير أصفر . ابتسم الرجل في وجهي وتحدث معي باللغة الانكليزية ، فأجبته . أذكر تماماً أن الدهشة بدت على وجهه واتسعت حدقتا عينيه أول ما سمع صوتي . دقق النظر في وجهي وقال لي : " كم سنك ؟ " فقلت له خمسة عشر . كنت في الواقع في الثانية عشرة ، لكنني خفت أن يستخف بي. فقال الرجل : " إلى أين تقصد ؟ " فقلت له : " إنني ذاهب للالتحاق بمدرسة ثانوية في القاهرة " . فقال : " وحدك ؟ " قلت نعم . نظر إلى مرة أخرى نظرة طويلة فاحصة ، فقلت له قبل أن يتكلم : " إنني أحب السفر وحدي . مم أخاف ؟ " حينئذ قال لي جملة لم أحفل بها كثيراً وقتذاك . وأضاءت وجهه ابتسامة كبيرة وأردف : " إنك تتحدث اللغة الانكليزية بطلاقة مذهلة " .
    وصلت القاهرة ، فوجدت مستر روبنسن وزوجته في انتظاري ، فقد أخبرتهما مستر ستكول بقدومي . صافحني الرجل وقال لي : " كيف أنت يا مستر سعيد ؟ " فقلت له : " أنا بخير يا مستر رونسن " . ثم قدمني إلى زوجته . وفجأة أحسست بذراعي المرأة تطوقاني ، وشفتيها على خدي . في تلك اللحظة ، وأنا واقف على رصيف المحطة ، وسط دوامة من الأصوات والأحاسيس ، وزندا المرأة ملتفان حول عنقي ـ وفمها على خدي ، ورائحة جسمها ، رائحة أوربية غريبة ، تدغدغ أنفي ، وصدرها يلامس صدري ، شعرت وأنا الصبي ابن الاثني عشر عاماً بشهوة جنسية مبهمة لم أعرفها من قبل في حياتي ، وأحسست كأن القاهرة ، ذلك الجبل الكبير الذي حملني إليه بعيري ، امرأة أوربية ، مثل مسز روبنسن وتقول لي : " أنت يا مستر سعيد إنسان خال تماماً من المرح " . صحيح أنني لم أكن أضحك . وتضحك مسز روبنسن وتقول لي : " لا تستطيع أن تنسى عقلك أبداً؟ " ويوم حكموا عليّ في الأولد بيلي بالسجن سبع سنوات ، لم أجد صدراً أسند رأسي إليه . وربتت على رأسي وقالت : " لا تبك يا طفلي العزيز " . لم يكن لهما أطفال . كان مستر روبنسن يحسن اللغـة العـربية ، ويعني بالفكر الإسلامي والعمـارة الإسلامية ، فزرت معهما جوامع القاهرة ، ومتاحفها وآثارها . وكانت أحب مناطق القاهرة إليهما ، منطقة الأزهر . كنا حين تكل أقدامنا من الطواف ، نلوذ بمقهى بجوار جامع الأزهر ، ونشرب عصير التمر هندي ، ويقرأ مستر روبنسن شعر المعري . كنت وقتها مشغولاً بنفسي ، فلم أحفل بالحب الذي أسبغاه علي . كانت مسز روبنسن ممتلئة الجسم ، برونزية اللون ، منسجمة مع القاهرة ، كأنها صورة منتقاة بذوق ، لتناسب لون الجدران في غرفة . وكنت أنظر إلى شعر ابطيها ,أحس بالذعر .. لعلها كانت تعلم أنني أشتهيها ، لكنها كانت عذبة ، أعذب امرأة عرفتها . تضحك بمرح ، وتحنو علي كما تحنو أم على إبنها .
    وكانا على الرصيف حين أقلعت بي الباخرة من الإسكندرية . ورأيتها من بعيد وهي تلوح لي منديلها ، ثم تجفف به الدمع من عينيها ، وإلى جوارها زوجها ، واضعاً يديه على خصره ، وأكاد أرى ، حتى من ذلك البعد ، صفاء عينيه . الزرقاوين . إلا أنني لم أكن حزيناً ، كان كل همي أن أصل لندن ، جبلاً آخر أكبر من القاهرة ، لا أدري كم ليلة أمكث عنده . كنت في الخامسة عشرة ، يظنني من يراني في العشرين ، متماسكاً على نفسي ، كأنني قربة منفوخة . ورائي قصة نجاح فذ في المدرسة ، كل سلاحي هذه المدية الحادة في جمجمتي ، وفي صدري إحساس بارد جامد ، كأن جوف صدري مصبوب بالصخر ولما ابتلعت اللجة الساحل ، وهاج الموج تحت السفينة ، وإستدار الأفق الأزرق حوالينا ، أحسست تواً بألفة غامرة للبحر . إنني أعرف هذا العملاق الأخضر اللامنتهي ، كأنه يمور بين ضلوعي . واستمرأت طيلة الرحلة ذلك الإحساس في أني في مكان ، وحدي ، أمامي وخلفي الأبد أو لا شيء وصفحة البحر حين يهدأ سراب آخر ، دائم التبدل والتحول ، مثل القناع الذي على وجه أمي . هنا أيضاً صحراء مخضرة مزرقة ممتدة ، تناديني ، تناديني . وقادني النداء الغريب إلى ساحل دوفر ، وإلى لندن ، وإلى المأساة . لقد سلكت ذلك الطريق بعد ذلك عائداً وكنت أسائل نفسي طوال الرحلة ، هل كان من الممكن تلافي شيء مما وقع ؟ وتر القوس مشدود ، ولابد أن ينطلق السهم . ,انظر إلى اليسار واليمين ، إلى الخضرة الداكنة ، والقرى السكسونية القائمة على حوافي التلال . سقوف البيوت حمراء ، محدودبة كظهور البقر ، وثمة غلالة شفافة من الضباب ، منشورة فوق الوديان . ما أكثر الماء هنا وما أرحب الخضرة. وكل تلك الألوان . ورائحة المكان غريبة ، كرائحة جسد مسز رونسن . والأصوات لها وقع نظيف في أذني ، مثل حفيف أجنحة الطير . هذا عالم منظم ، بيوته وحقوله وأشجاره مرسومة وفقاً لخطة . الغدران كذلك لا تتعرج ، بل تسيل بين شطآن صناعية . ويقف القطار في المحطة ، بضع دقائق . يخرج الناس مسرعين ، ويدخلون مسرعين ، ثم يتحرك القطار . لا ضوضاء . وفكرت في حياتي في القاهرة . لم يحدث شيء ليس في الحسبان . زادت معلوماتي . وحدثت لي أحداث صغيرة ، وأحبتني زميلة لي ثم كرهتني وقالت لي : " أنت لست إنساناً . أنت آلة صماء " . تسكعت في شوارع القاهرة ، وزرت الأوبرا ، ودخلت المسرح ، وقطعت النيل سابحاً ذات مرة . ولم يحدث شيء إطلاقا ، سوى أن القربة زادت انتفاخاً ، وتوتر وتر القوس . سينطلق السهم نحو آفاق أخرى مجهولة . وانظر إلى دخان القطار ، يتلاشى ، حيث تهب به الريح ، في غلالة الضباب المنتشرة في الوديان . وأخذتني سنة من النوم . وحلمت أنني أصلي وحدي في جامع القلعة . كان المسجد مضاء بآلاف الشمعدانات ، والرخام الأحمر يتوهج ، وأنا وحـدي أصلي . واستيقظ وفي أنفي رائحة البخـور ، فإذا القطار يقترب من لندن . القاهرة مدينة ضاحكة ، وكذلك مسز روبنسن . كانت تريدني أن أناديها باسمها الأول ، اليزابيت ، لكنني كنت أناديها باسم زوجها . تعلمت منها حب موسيقى باخ ، وشعر كيتس ، وسمعت عن مارك توين لأول مرة منها . لكني لم أكن أستمتع بشيء , وتضحك مسز روبنسن وتقول لي : " ألا تستطيع أن تنسى عقلك أبداً ؟ " هل كان من الممكن تلافي شيء مما حدث ؟ كنت عائداً حينذاك وتذكرت ما قاله لي القسيس ، وأنا في طريقي إلى القاهرة : " كلنا يا بني نسافر وحدنا في نهـاية الأمر " . كانت يده تتحسس الصليب على صدره . وأضاءت وجهه ابتسامة كبيرة وأردف : " أنك تتحدث الانكليزية بطلاقة مذهلة " . اللغة التي أسمعها الآن ليست كاللغة التي تعلمتها في المدرسة . وهذه أصوات حية ، لها جرس آخر . كان عقلي كأنه مدية حادة . لكن اللغة ليست لغتي . تعلمت فصاحتها بالممارسة . وحملني القطار إلى محطة فكتوريا ، وإلى عالم جين مورس .
    كل شيء حدث قبل لقائي إياها ، كان إرهاصا . وكل شيء فعلته بعد أن قتلتها كان اعتذاراً ، لا لقتلها ، بل لأكذوبة حياتي . كنت في الخامسة والعشرين حين لقيتها ، وفي حفل في تشلسي . الباب ، وممر طويل يؤدي إلى القاعة . فتحت الباب ، وتريثت ، وبدت لعيني تحت ضوء المصباح الباهت كأنها سراب لمع في صحراء . كنت مخموراً ، كأسي بقي ثلثاً ، وحولي فتاتان ، أتفحش معهما ، تضحكان , وجاءت تسعى نحونا بخطوات واسعة ، تضع ثقل جسمها على قدمها اليمنى ، فيميل قبالتي ونظرت إلى بصلف وبرود .. وشيء آخر . وفتحت فمي لأتكلم ، لكنها ذهبت , وقلت لصاحبتي " من هذه الأنثى ؟ " .
    كانت لندن خارجة من الحرب ومن وطأة العهد الفكتوري . عرفت حانات تشلسي ، وأندية هامبستد ، ومنتديات بلومزبري . اقرأ الشعر ، وأتحدث في الدين والفلسفة ، وانقد الرسم ، وأقول كلاماً عن روحانيات الشرق . أفعل كل شيء حتى أدخل المرأة في فراشي . ثم أسير إلى صيد آخر . لم يكن في نفسي قطرة من المرح ، كما قالت مسز روبنسن . جلبت النساء إلى فراشي من بين فتيات جيش الخلاص ، وجمعيات الكويكرز ، ومجتمعات الفابيانيين . حين يجتمع حزب الأحرار أو العمال أو المحافظين الشيوعيين ، أسرج بعيري وأذهب . وفي المرة الثانية ، قالت لي جين مورس : " أنت بشع . لم أر في حياتي وجهاً بشعاً كوجهك " . وفتحت فمي لأتكلم لكنها ذهبت . وحلفت في تلك اللحظة ، وأنا سكران أنني سأتقاضاها الثمن في يوم من الأيام . وصحوت وآن همند إلى جواري في الفراش . أي شيء جذب آن همند إليّ ؟ أبوها ضابط في سلاح المهندسين ، وأمها من العوائل الثرية في لفربول كانت صيداً سهلاً ، لقيتها وهي دون العشرين ، تدرس اللغات الشرقية في أكسفورد . كانت حية ، وجهها ذكي مرح وعيناها تبرقان بحب الاستطلاع . رأتني فرأت شفقاً داكناً كفجر كاذب . كانت عكسي تحن إلى مناخات استوائية ، وشموس قاسية ، وآفاق أرجوانية . كنت في عينها رمزاً لكل هذا الحنين . وأنا جنوب يحن إلى الشمال والصقيع . وآن همند قضت طفولتها في مدرسة راهبات . عمتها زوجة نائب في البرلمان . حولتها في فراشي إلى عاهرة . غرفة نومي مقبرة تطل على حديقة ، ستائرها وردية منتقاة بعناية ، وسجاد سندسي دافئ والسرير رحب مخداته من ريش النعام . وأضواء كهربائية صغيرة ، حمراء وزرقاء ، وبنفسجية ، موضوعة في زوايا معينة . وعلى الجدران مرايا كبيرة ، حتى إذا ضاجعت امرأة ، بدأ كأنني أضاجع حريماً كاملاً في آن واحد . تعبق في الغرفة رائحة الصندل المحروق والند ، وفي الحمام عطور شرقية نفاذة ، وعقاقير كيمائية ، ودهون ، مساحيق ، وحبوب . غرفة نومي كانت مثل غرفة عمليات في مستشفى . ثمة بركة ساكنة في أعماق كل امرأة . كنت أعرف كيف أحركها . وذات يوم وجدوها ميتة انتحاراً بالغاز ووجدوا ورقة صغيرة باسمي . ليس فيها سوى هذه العبارة : مستر سعيد . لعنة الله عليك " . كان عقلي كأنه مدية حادة . وحملني القطار إلى محطة فكتوريا . وإلى عالم جين مورس .
    في قاعة المحكمة الكبرى في لندن ، جلست أسابيع أستمع إلى المحامين يتحدثون عني ، كأنهم يتحدثون عن شخص لا يهمني أمره . كان المدعي العمومي سير آرثر هنغنز عقل مربع ، أعرفه تمام المعرفة ، علمني القانون في أكسفورد ، ورأيته من قبل ، في المحكمة نفسها وفي هذه القاعة ، يعتصر المتهمين في قفص الاتهام اعتصارا . نادراً ما كان يلفت متهم من يده . ورأيت متهمين يبكون ويغمى عليهم ، بعد أن يفرغ من استجوابهم . لكنه هذه المرة كان يصارع جثة .
    " هل تسببت في انتحار آن همند ؟ "
    " لا أدرى "
    " وشيلا غرينود ؟ "
    " لا أدري "
    " وإيزابيلا سيمور ؟ "
    " لا أدري "
    " هل قتلت جين مورس ؟ "
    " نعم "
    كان صوته كأنما يصلني من عالم آخر . ومضى الرجل يرسم بحدق صورة مريعة لرجل ذئب ، تسبب في انتحار فتاتين ، وحطم امرأة متزوجة ، وقتل زوجته ، رجل أناني ، انتصبت حياته كلها على طلب اللذة . ومرة خطر لي في غيبوبتي ، وأنا جالس هناك أستمع إلى أستاذي ، بروفسور ماكسول فستر كين ، يحاول أن يخلصني من المشنقة ، أن أقف وأصرخ في المحكمة : " هذا المصطفى سعيد لا وجود له . إنه وهم ، أكذوبة . وإنني أطلب منكم أن تحكموا بقتل الأكذوبة . لكنني كنت هامداً مثل كومة رماد . ومضى برفسور ماكسول فستر كين يرسم صورة لعقل عبقري دفعته الظروف إلى القتل ، في لحظة غيرة وجنون . روى لهم كيف أنني عينت محاضراً للاقتصاد في جامعة لندن ، وأنا في الرابعة والعشرين . قال لهم أن " آن همند " و " شيلا غرينود " كانتا فتاتين تبحثان عن الموت بكل سبيل ، وأنهما كانتا ستنتحران سواء قابلتا مصطفى سعيد أو لم تقابلاه . " مصطفى سعيد يا حضرات المحلفين إنسان نبيل ، استوعب عقله حضارة الغرب ، لكنها حطمت قلبه . هاتان الفتاتان لم يقتلهما مصطفى سعيد ولكن حطمت قلبه . هاتان الفتاتان لم يقتلهما مصطفى سعيد ولكن قتلهما جرثوم مرض عضال أصابهما منذ ألف عام " . وخطر لي أن أقف وأقول لهم : " هذا زور وتلفيق . قتلتهما أنا . أنا صحراء الظمأ . أنا لست عطيلا . أنا أكذوبة . لماذا لا تحكمون بشنقي فتقتلون الأكذوبة ! " . لكن بروفسور فستر كين حوّل المحاكمة إلى صراع بين عالمين ، كنت أنا أحدى ضحاياه . وحملني القطار إلى محطة فكتوريا ، وإلى عالم جين مورس .
    لبثت أطاردها ثلاثة أعوام . كل يوم يزداد وتر القوس
    توتراً ، قربي مملوءة هواء ، وقوافلي ظمأى ، السراب يلمع أمامي في متاهة الشوق ، وقد تحدد مرمى السهم ، ولا مفر من وقوع المأساة . وذات يوم قالت لي : " أنت ثور همجي لا يكل من الطراد . إنني تعبت من مطاردتك لي ، ومن جريي أمامك . تزوجني " . وتزوجتها . غرفة نومي صارت ساحة حرب . فراشي كان قطعة من الجحيم . أمسكها فكأنني أمسك سحابا ، كأنني أضاجع شهابا ، كأنني أمتطي صهوة نشيد عسكري بروسي . وتفتأ تلك الابتسامة المريرة على فمها . أقضي الليل ساهراً ، أخوض المعركة بالقوس والسيف والرمح والنشاب ، وفي الصباح أرى الابتسامة ما فتئت على حالها ، فأعلم أنني خسرت الحرب مرة أخرى . كأنني شهريار رقيق ـ تشتريه في السوق بدينار ، صادف شهر زاد متسولة في أنقاض مدينة قتلها الطاعون . كنت أعيش مع نظريات كينز وتوني بالنهار ، وبالليل أواصل الحرب بالقوس والسيف والرمح والنشاب . رأيت الجنود يعودون ، يملؤهم الذعر ، من حرب الخنادق والقمل والوباء . رأيتهم يزرعون بـذور الحرب القادمة في معاهدة فرسـاي ، رأيت لويـد جورج يضـع أُسس دولة الرفاهية العـامة . وانقلبت المدينة إلى امرأة عجيبة ، لها رموز ونداءات غامضة ، ضربت إليها أكباد الإبل ، وكاد يقتلني في طلابها الشوق ، غرفة نومي ينبوع حزن ، جرثوم مرض فتاك . العدوى أصابتهن منذ ألف عام ، لكنني هيجت كوامن الداء حتى استفحل وقتل . وكان المغنون يرددون أهازيج الحب الحقيقي والمرح في مسارح لستر سكوير ، فلم يخفق لها قلبي . من كان يظن أن شيلا غرينود تقدم على الانتحار ؟ خادمة في مطعم في سوهو . بسيطة حلوة المبسم ، حلوة الحديث . أهلها قرويون من ضواحي هل . أغريتها بالهدايا والكلام المعسول ، والنظرة التي ترى الشيء فلا تخطئه . جذبها عالمي الجديد عليها . دوختها رائحة الصندل المحروق والند ، ووقفت وقتاً تضحك لخيالها في المرآة ، وتعبث بعقد العاج الذي وضعته كأنشوطة حول جيدها الجميل . دخلت غرفة نومي بتولاً بكراً ، وخرجت منها تحمل جرثوم المرض في دمها . ماتت دون أن تنبس ببنت شفة . ذخيرتي من الأمثال لا تنفد . ألبس لكل حالة لبوسها ، شنى يعرف متى يلاقي طبقه .
    " أليس صحيحاً أنك في الفترة ما بين أكتوبر 1922 وفبراير 1923 ، في هذه الفترة وحدها على سبيل المثال ، كنت تعيش مع خمس نساء في آن واحد ؟ ".
    "بلى " .
    " وانك كنت توهم كلاً منهن بالزواج ؟ "
    " بلى " .
    " وانك انتحلت إسماً مختلفاً مع كل منهن ؟ "
    " بلى " .
    " انك كنت حسن ، تشارلز ، وأمين ، ومصطفى ، ورتشارد ؟ "
    " بلى " .
    " مع ذلك كنت تكتب وتحاضر عن الاقتصاد المبني على الحب لا على الأرقام ؟ أليس صحيحاً انك أقمت شهوتك بدعوتك الإنسانية في الاقتصاد ؟ "
    " بلى " .

    ثلاثون عاماً . كان شجر الصفصاف يبيض ويخضر ويصفر في الحدائق ، وطير الوقواق يغني للربيع كل عام . ثلاثون عاما وقاعة البرت تغص كل ليلة بعشاق بيتهوفن وباخ ، والمطابخ تخرج آلاف الكتب في الفن والفكر . مسرحيات برنارد شو ثمثل في الرويال كورت والهيماركت . كانت ايدث ستول تغرد بالشعر ، ومسرح البرنس اف ويلز يفيض بالشباب والألق . البحر في مده وجزره في بورتمث وبرايتن ، ومنطقة البحيرات تزدهي عاماً بعد عام . الجزيرة مثل لحن عذب ، سعيد حزين ، في تحول سرابي مع تحول الفصول . ثلاثون عاماً وأنا جزء من كل هذا ، أعيش فيه ، ولا أحس جماله الحقيقي ولا يعنيني منه إلا ما يملأ فراشي كل ليلة .
    نعم . في الصيف . قالوا أن صيفاً مثله لم يأتهم منذ مائة عام . خرجت من داري يوم سبت اشمشم الهواء ، وأحس بأنني مقبل علي صيد عظيم . وصلت ركن الخطباء في حديقة هايد بارك . كان غاضاً بالخلق . وقفت عن بعد أستمع إلى خطيب من جزر الهند الغربية يتحدث عن مشكلة الملونين . استقرت عيني فجأة على امرأة تشرئب بعنقها لرؤية الخطيب ، فيرتفع ثوبها إلى ما فوق الركبتين ، مظهراً ساقين ملتفتين من البرونز . نعم هذه فريستي , وسرت إليها ، كالقارب يسير إلى الشلال . ووقفت رواءها ، والتصقت حتى أحسست بحرارتها تسري إلى . وشممت رائحة جسدها ، تلك الرائحة التي استقبلتني بها مسز روبنسون على رصيف محطة القاهرة . واقتربت منها حتى أحست بي ، فالتفتت إلى فجأة ، فابتسمت في وجهها ابتسامة لم أكن أعلم مصيرها ، لكنني عومت على ألا تضيع هباء . وضحكت أيضاً ، حتى لا تنقلب الدهشة في وجهها إلى عداء فابتسمت . ووفقت إلى جانبها نحواً من ربع الساعة ، أضحك حين يضحكها قول الخطيب ، وأضحك بصوت مرتفع لكي تسري فيها عدوى الضحك ، حتى جاءت لحظة ، أحسست فيها أنني وهي صرنا كفرس ومهرة ، يركضان في تناسق ، جنباً إلى جنب , وهنا خرج الصوت من حلقي ، كأنه ليس صوتي : " ما رأيكِ في شراب ، بعيداً عن هذا الزحام والحر ؟ " أدارت رأسها بدهشة ، فابتسمت هذه المرة ابتسامة عريضة بريئة ، حتى أحول الدهشة إلى حب استطلاع على الأقل . وفي أثناء ذلك تفرست في وجهها ، فوجدت كل سمة من سماته يزيدني اقتناعاً بأن هذه فريستي . كنت أعلم ، بطبيعة المقامر ، أن تلك اللحظة حاسمة . كل شيء في هذه اللحظة محتمل . وتحولت ابتسامتي إلى سرور كاد يفلت زمامه من يدي حين قالت : " نعم . ولم لا ؟ " وسرنا معاً ، أحس بها إلى جانبي وهجاً من البرونز تحت شمس يوليو ، أحس بها مدينة من الأسرار والنعيم . وسرني أنها تضحك بسهولة . هذه السيدة ، نوعها كثير في أوربا ، نساء لا يعرفن الخوف ، يقلبن على الحياة بمرح وحب استطلاع . وأنا صحراء الظمأ ، متاهة الرغائب الجنوبية . وسألتني ونحن نشرب الشاي عن بلدي . رويت لها حكايات ملفقة عن صحاري ذهبية الرمال ، وأدغال تتصايح فيها حيوانات لا وجود لها . قلت لها أن شوارع عاصمة بلادي تعج بالأفيال والأسود ، وتزحف عليها التماسيح عند القيلولة . وكانت تستمع إليّ بين مصدقة ومكذبة . تضحك ، وتغمض عينيها ، وتحمر وجنتاها . وأحياناً تصغي إلى في صمت ، وفي عينيها عطف مسيحي . وجاءت لحظة أحسست فيها أنني انقلبت في نظرها مخلوقاً بدائياً عارياً ، يمسك بيده رمحاً ، وبالأخرى نشاباً ، يصيد الفيلة والأسود في الأدغال . هذا حسن . لقد تحول حب الاستطلاع إلى مرح ، وتحول المرح إلى عطف ، وحين أحرك البركة الساكنة في الأعماق ، سيستحيل العطف إلى رغبة أعزف على أوتارها المشدودة كما يحلو لي . وسألتني : " ما جنسك ؟ هل أنت أفريقي أم أسيوي ؟ "
    قلت لها : " أنا مثل عطيل . عربي أفريقي " .
    نظرت إلى وجهي وقالت : " نعم . أنفك مثل أنوف العرب في الصور . لكن شعرك ليس فاحماً ناعماً مثل شعر العرب " .
    " نعم ؟ هذا أنا . وجهي عربي كصحراء الربع الخالي ، ورأسي أفريقي يمور بطفولة شريرة " .
    ضحكت وقالت : " أنت تصور الأشياء بشكل غريب " . وقادنا الحديث إلى أهلي ، فقلت لها ، غير كاذب هذه المرة ، أنني يتيم وليس لي أهل . ثم عدت إلى الكذب ، فوصفت لها وصفاً مهولاً كيف فقدت والدي ، حتى رأيت الدمع يطفر إلى عينيها . قلت لها أنني كنت في السادسة من عمري ، حين غرق والداي مع ثلاثين آخرين في مركب كان بعبر بهم النيل من شاطيء إلى شاطيء . وهنا حدث شيء كان أفضل من الرثاء . الرثاء في مثل هذه الأمور عاطفة غير مضمونة العواقب . لمعت عيناها ، وصاحت في نشوة : " نايل ؟ " .
    " نعم النيل " .
    " أنتم تسكنون على ضفاف النيل ؟ "
    " أجل ، بيتنا على ضفة النيل تماماً بحيث أنني كنت إذا استيقظت على فراشي ليلاً ، اخرج يدي من النافذة وأداعب ماء النيل حتى يغلبني النوم " .
    الطائر يا مستر مصطفى قد وقـع في الشرك . النيل ، ذلك الإله الأفعى ، قد فاز بضحية جديدة . المدينة قد تحولت إلى امرأة . وما هو إلاّ يوم أو أسبوع ، حتى أضرب خيمتي ، واغرس وتدي في قمة الجبل . أنت يا سيدتي قد لا تعلمين ، ولكنك ، مثل "كارنارفون " حين دخل قبر توت عنخ آمون ، قد أصابك داء فتاك لا تدرين من أين أتى ، سيؤدي بك إن عاجلاً وان آجلاً . ذخيرتي من الأمثال لا تنفذ . شنى يعرف متى يلاقي طبقه . وأحسست بزمام الحديث في يدي ، كفنان مهره مطواع ، أشده فتقف ، أهزه فتمشي ، أحركه فتتحرك وفقاً لإرادتي ، إن يميناً وإن شمالا . وقلت لها :
    " مضت ساعتان دون أن أحس بهما . لم أحس بمثل هذه السعادة منذ زمن بعيد وبقي كثيراً قوله لك وتقولينه لي . ما رأيك في أن نتمشى معاً ، نواصل الحديث ؟ "
    صمتت برهة ، فلم أقلق ، لأنني أحسست بذلك الدفء الشيطاني ، تحت الحجاب الحاجز حين أحسه أعلم أنني مسيطر على زمام المواقف . لا ، أنها لن تقول لا . وقالت : " هذا لقاء عجيب . رجل غريب لا أعرفه يدعوني . هذا لا يجوز ، لكن .. " وصمتت ثم قالت : " نعم . لم لا ؟ هيئتك لا تدل على أنك من آكلة لحوم البشر " .
    قلت لها ، وموجة الفرح تتحرك في ، جذور قلبي : " ستجدني أنني تمساح عجوز سقطت أسنانه . لن أقوى على أكلك حتى لو أردت " . قدرت أنني أصغرها بخمسة عشر عاماً على الأقل ، امرأة في حدود الأربعين ، مهما حدثت لها من التجارب فإن الزمن قد عامل جسدها بحنو . التجاعيد الدقيقة على جبهتها وعلى أركان فمها لا تقول لك أنها شاخت ، بل تقول أنها نضجت .
    حينئذ فقط سألتها عن اسمها فقالت : " إيزابيلا سيمور " . رددته مرتين ، وأنا أملأ به فمي ، كأنني آكل ثمرة كمثري .
    " وأنت ما اسمك ؟ " .
    " أنا .. أمين . أمين حسن " .
    " سأسميك حسن " .
    ومع الشواء والنبيذ ، انفرجت أساريرها ، وتدفق حب تحس به نحو العالم بأسره ، عليّ أنا . وأنا لا يعنيني حبها للعالم . ولا سحابة الحزن التي تعبر وجهها من آن لآن ، بقدر ما تعنيني حمرة لسانها حين تضحك ، واكتناز شفتيها ، والأسرار الكامنة في قاع فمها . وتخيلتها عارية ، وأفحشت التخيل وهي تقول لي : " الحياة مليئة بالألم . لكن يجب علينا أن نتفاءل ، ونواجه الحياة بشجاعة " .

    نعم أنا أعلم الآن أن الحكمة القريبة المنـال ، تخرج من أفواه البسطاء ، هي كل أملنا في الخلاص . الشجرة تنمو ببساطة ، وجدك عاش وسيموت ببساطة . ذلك هو السر. صدقت يا سيدتي ، الشجاعة والتفاؤل . لكن إلى أن يرث المستضعفون الأرض ، وتسرح الجيوش ، ويرعى الحمل آمناً بجوار الذئب ، ويلعب الصبي كرة الماء مع التمساح في النهر ، إلى أن يأتي زمان السعادة والحب هذا ، سأظل أنا أعبر عن نفسي بهذه الطريقة الملتوية . وحين أصل لاهثاً قمة الجبل ، وأغرس البيرق ، ثم ألتقط أنفاسي وأستجم – تلك يا سيدتي نشوة أعظم عندي من الحب ، ومن السعادة . ولهذا ، فأنا لا أنوي بك شراً ، إلا بقدر ما يكون البحر شريراً ، حين تتحطم السفن على صخوره ، وبقدر ما تكون الصاعقة شريرة حين تشق الشجرة نصفين . وتركزت الفكرة الأخيرة في رأسي ، بشعيرات على ذراعها الأيمن ، قريباً من الرسغ ، ولاحظت أن شعر ذراعيها أكثف مما هو عند النساء عادة ، وقادني هذا إلى شعر آخر . لابد أنه ناعم غزير مثل نبات السعدة على حافة الجدول . وكأنما سرت الفكرة من ذهني إليها ، فاعتدلت في جلستها وقالت : " ما بالك تبدو حزيناً ؟ "
    " هل أبدو حزيناً ؟ أنا على العكس ، سعيد جداً " .
    وعادت النظرة الحانية إلى عينيها ، ومدت يدها فأمسكت يدي وقالت . " هل تدري أن أمي اسبانية ؟ "
    " هذا إذا يفسر كل شيء . يفسر لقاءنا صدفة ، وتفاهمنا تلقائياً ، كأننا تعارفنا منذ قرون . لابد أن جدي كان جندياً في جيش طارق بن زياد . ولابد أنه قابل جدتك ، وهي تجني العنب في بستان في اشبيلية ولابد أنه أحبها من أول نظرة ، وهي أيضاً أحبته, وعاش معها فترة ثم تركها وذهب إلى أفريقيا , وهناك تزوج . وخرجت أنا من سلالته في أفريقيا ، وأنت جئت من سلالته في اسبانيا " .
    هذا الكلام ، والضوء الخافت أيضاً والنبيذ ، أسعدها ، فقرقرت لهاتها بالضحك وقالت : " يا لك من شيطان " .
    وتخيلت برهة لقاء الجنود العرب لأسبانيا . مثلي في هذه اللحظة ، أجلس قبالة إيزابيلا سيمور ، ظمأ جنوني تبدد في شعاب التاريخ في الشمال . إنما أنا لا أطالب المجد ، فمثلي لا يطلب المجد .
    وأدرت مفتاح الباب بعد شهر من حمى الرغبة ، وهي إلى جانبي ، أندلس خصب ، وقدتها بعد ذلك عبر الممر القصير إلى غرفة النوم ، ولفحتها رائحة الصندل المحروق والند ، فملأت رئتيها بعبير لم تكن تعلم أنه عبير قاتل . كنت تلك الأيام ، حين تصبح القمة مني على مد الذراع ، يعتريني هدوء تراجيدي . كل الحمى والوجيب في القلب ، والتوتر في العصب ، يتحول إلى هدوء جراح وهو يشق بطن المريض . وكنت أعلم أن الطريق القصير الذي شرناه معاً إلى غرفة النوم ، كان بالنسبة لها مضيئاً ، يعبق بعبير التسامح والمحبة ، وكان بالنسبة لي الخطوة الأخيرة ، قبل الوصول إلى قمة الأنانية وتريثت عند حافة الفراش ، كأنني الخص تلك اللحظة في ذهني ، وألقيت نظرة موضوعية على الستائر الوردية المراءات الكبيرة ، والأضواء الحذرة في أركان الحجرة ثم على تمثال البرونز المكتمل التكوين أمامي . ونحن في قمة المأساة صرخت بصوت ضعيف : " لا . لا . " . هذا لا يجديك نفعاً الآن . لقد ضاعت اللحظة الخطيرة حين كان بوسعك الامتناع عن إتخاذ الخطوة الأولى . أنني أخذتك على غرة ، وكان بوسعك حينئذ أن تقولي " لا " . أما الآن فقد جرفك تيار الأحداث ، كما يجرف كل إنسان ، ولم يعد في مقدورك فعل شيء . لو أن كل إنسان عرف متى يمتنع عن اتخـاذ الخطوة الأولى ، لتغيرت أشياء كثيرة . هل الشمس شريرة حين تحيل قلوب ملايين البشر إلى صحاري تتعارك رمالها ويجف فيها حلق العندليب ؟ وتريثت وأنا أمسح براحة يدي ظاهر عنقها ، واقبلها في منابع الإحساس . ومع كل لمسة ، مع كل قبلة ، أحس أن عضلة في جسدها ترتخي ، وتألق وجهها ولمعت عيناها ببريق خاطف ، واستطالت نظراتها كأنها تنظر إلى فتراني رمزاً ليس حقيقة . وسمعتها تقول لي بصوت متضرع مستسلم : " أحبك " ، فجاوب صوتها هتاف ضعيف في أعماق وعيي يدعوني أن أقف . لكن القمة صارت على بعد خطوة ، وبعد ذلك التقط أنفاسي واستجم . ونحن في قمة الألم عبرت برأسي سحائب ذكريات بعيدة قديمة كبخار يصعد من بحيرة مالحة وسط الصحراء . وانفجرت هي ببكاء ممض محرق ، واستسلمت أنا إلى نوم متوتر محموم .

Comments

Overview

You can use our built-in RhinoRecorder to record from within your browser, or you may also use the form to upload an audio file for this Audio Request.

Don't have audio recording software? We recommend Audacity. It's free and easy to use.