انها قصة طويلة . لكنني لن أقول لك كل شيء . وبعض التفاصيل لن تهمك كثيراً ، وبعضها ... المهم أنني كما ترى ولدت بالخرطوم . نشأت يتيماً ، فقد مات أبي قبل أن أولد ببضعة أشهر ، لكنه ترك لنا ما يستر الحال . كان يعمل في تجارة الجمال . لم يكن لي أخوة ، فلم تكن الحياة عسيرة عليّ وعلى أمي . حين أرجع الآن بذاكرتي ، أراها بوضوح ، شفتاها الرقيقتان مطبقتان في حزم ، وعلى وجهها شيء مثل القناع . لا أدري . قناع كثيف ، كأن وجهها صفحة بحر ، هل تفهم ؟ ليس له لون واحد بل ألوان متعددة ، تظهر وتغيب وتتمازج . لم يكن لنا أهل . كنا ، أنا وهي ، أهلاً بعضنا لبعض . كانت كأنها شخص غريب جمعتني به الظروف صدفة في الطريق . لعني كنت مخلوقاً غريباً ، أو لعل أمي كانت غريبة . لا أدري لم نكن نتحدث كثيراً ، وكنت ، لعلك تعجب ، أحس احساساً دافئاً بأنني حر ، بأنه ليس ثمة مخلوق أب أو أم ، تربطني كالوتد إلى بقعة معينة ومحيط معين . كنت وأنام ، أخرج وأدخل ، ألعب خارج البيت ، أتسكع في الشوارع ، ليس ثمة أحد يأمرني أو ينهاني إلا أنني منذ صغري ، كنت أحس بأنني أنني مختلف . أقصد أنني لست كبقية الأطفال في سني ، لا أتأثر بشيء لا أبكي إذا ضربت ، لا أفرح إذا أثنى عليّ المدرس في الفصل ، لا أتألم لما يتألم له الباقون . كنت مثل شيء مكور من المطاط ، تلقيه في الماء فلا يبتل ، ترميه على الأرض فيقفز . كان ذلك الوقت أول عهدنا بالمدارس أذكر الآن الناس كانوا غير راغبين فيها . كانت الحكومة تبعث أعوانها يجوبون البلاد والأحياء ، فيخفي الناس أبناءهم . كانوا يظنونها شراً عظيماً جاءهم مع جيوش الاحتلال . كنت ألعب مع الصبية خارج دارنا ، فجاء رجل على فرس ، في زي رسمي ، ووقف فوقنا . جرى الصبية ، وبقيت أنظر إلى الفرس وإلى الرجل فوقه . سألني عن اسمي فأخبرته . قال لي كم عمرك ، فقلت له لا أدري . قال لي : " هل تحب أن تتعلم في المدرسة ؟ " قلت له : " ما هي المدرسة ؟ " فقال لي : بناء جميل من الحجر وسط حديقة كبيرة على شاطئ النيل . يدق الجرس وتدخل الفصل مع التلاميذ . تتعلم القراءة والكتابة والحساب . قلت للرجل : " هل ألبس عمامة كهذه ؟ " وأشرت إلى شيء كالقبة فوق رأسه . فضحك الرجل وقال لي : " هذه ليست عمامة . هذه برنيطة . قبعة " . وترجل عن فرسه ووضعها فوق رأسي فغاب وجهي كله فيها . ثم قال الرجل : " حين تكبر ، وتخرج من المدرسة ، وتصير موظفاً في الحكومة ، تلبس قبعة كهذه " قلت للرجل : " أذهب للمدرسة " . أردفني الرجل خلفه فوق الحصان ، وحملني إلى مكان ، كما وصفه ، من الحجر ، على ضفة النيل ، تحيط به أشجار وأزهار . ودخلنا على رجل ذي لحية ، يلبس جبة ، فقام وربت على رأسي ، وقال لي : " لكن أين أبوك ؟ " فقلت لن أن أبي ميت . فقال لي : " من ولي أمرك ؟ " قلت له : " أريد أن أدخل المدرسة " . نظر إليّ الرجل بعطف ، ثم قيدوا اسمي في سجل ، وسألوني كم عمرك فقلت لهم لا أدري . وفجأة دق الجرس . فررت منهم ، ودخلت إحدى الحجرات فجاء الرجلان وساقاني إلى حجرة أخرى وأجلساني في مقعد بين صبية آخرين . عدت إلى أمي في الظهر فسألتني أين كنت ، فحكيت لها القصة . نظرت إليّ برهة نظرة غامضة ، كأنها أرادت أن تضمني إلى صدرها . فد رأيت وجهها يصفو برهة ، وعينيها تلمعان ، وشفتيها تفتران كأنها تريد أن تبتسم ، أو تقول شيئاً . لكنها لم تقل شيئاً . وكانت تلك نقطة تحول في حياتي . كان ذلك أول قرار اتخذته ، بمحض إرادتي .
إنني لا أطلب منك أن تصدق ما أقوله لك . لك أن تعجب وأن تشك . أنت حر . هذه وقائع مضى عليها وقت طويل ، وهي كما ترى الآن ، لا قيمة لها . أقولها لك لأنها تحضرني ، لأن الحوادث بعضها يذكر بالبعض الآخر . المهم أنني انصرفت بكل طاقاتي لتلك الحياة الجديدة . وسرعان ما اكتشفت في عقلي مقدرة عجيبة على الحفظ والاستيعاب والفهم . أقرأ الكتاب فيرسخ جملة في ذهني . ما ألبث أن أركز عقلي في مشكلة الحساب حتى تتفتح لي مغالقها ، تذوب بين يدي كأنها قطعة ملح وضعتها في الماء . تعلمت الكتابة في أسبوعين ، وانطلقت بعد ذلك لا ألوي على شيء . عقلي كأنه مدية حادة ، تقطع فر برود وفعالية . لم أبال بدهشة المعلمين وإعجاب رفقائي أو حسدهم . كان المعلمون ينظرون إليّ كأنني معجزة ، وبدأ التلاميذ يطلبون ودي . لكنني كنت مشغولاً بهذه الآلة العجيبة التي أتيحت لي . وكنت بارداً كحقل جليد ، لا يوجد في العالم شيء يهزني . طويت المرحلة الأولى في عامين ، وفي المدرسة الوسطى اكتشفت ألغازاً منها اللغة الانكليزية . فمضى عقلي يعض ويقطع كأسنان محراث . الكلمات والجمل تتراءى لي كأنها معادلات رياضية ، والجبر والهندسة كأنها رقعة شطرنج . كانت المرحلة الوسطى أقصى غاية يصل إليها المرء في التعليم تلك الأيام . وبعد ثلاثة أعوام ، قال لي ناظر المدرسة ، وكان انكليزياً : " هذه البلد لا تتسع لذهنك ، فسافر . أذهب إلى مصر أو لبنان أو انكلترا . ليس عندنا شيء نعطيك إياه بعد الآن " . قلت له على الفور : " أريد أن أذهب إلى القاهرة " . فسهّل لي ، فيما بعد ، السفر ، والدخول مجاناً في مدرسة ثانوية في القاهرة ، ومنحة دراسية من الحكومة . وهذه حقيقة في حياتي ، كيف قيضت الصدف لي قوماً ساعدوني وأخذوا بيدي في كل مرحلة ، قوماً لم أكن أحس تجاههم بأي إحساس بالجميل . كنت أتقبل مساعدتهم ، كأنها واجب يقومون به نحوي .
حين أخبرني ناظر المدرسة بأن كل شيء أُعد لسفري للقاهرة ، ذهبت إلى أمي وحدثتها . نظرت إلى مرة أخرى ، تلك النظرة الغربية . افترت شفتاها لحظة كأنها تريد أن تبتسم ـ ثم أطبقتها وعاد وجهها كعهده ، قناعاً كثيفاً ، بل مجموعة أقنعة . ثم غابت قليلاً ، وجاءت بصرَّة وضعتها في يدي ، وقالت لي : " لو أن أباك عاش ، لما أختار لك غير ما اخترته لنفسك . افعل ما تشاء . سافر . أو أبق ، أنت وشأنك . انها حياتك ، وأنت حر فيها . في هذه الصرة ما تستعين به " . كان ذلك وداعنا . لا دموع ولا قبل ولا ضوضاء . مخلوقات سارا شطراً من الطريق معاً ، ثم سلك كل منهما سبيله . وكان ذلك في الواقع آخر ما قالته لي ، فأنني لم أرها بعد ذلك . بعد سنوات طويلة ، وتجارب عدة ، تذكرت تلك اللحظة ، وبكيت . أما الآن ، فأنني لم أشعر بشيء على الإطلاق . جمعت متاعي في حقيبة صغيرة ، وركبت القطار . لم يلّوح أحد بيده ولم تنهمر دموعي لفراق أحد . وضرب القطار في الصحراء ، ففكرت قليلاً في البلد الذي خلفته ورائي ، فكان مثل جبل ضربت خيمتي عنده ، وفي الصباح قلعت الأوتاد وأسرجت بعيري ، وواصلت رحلتي . وفكرت في القاهرة ونحن في وادي حلفا ، فتخيلها عقلي جبلاً آخر ، أكبر حجماً، سأبيت عنده ليلة أو ليلتين ، ثم أواصل الرحلة إلى غاية أخرى .
أذكر أنني جلست في القطار قبالة رجل في مسوح وعلى رقبته صليب كبير أصفر . ابتسم الرجل في وجهي وتحدث معي باللغة الانكليزية ، فأجبته . أذكر تماماً أن الدهشة بدت على وجهه واتسعت حدقتا عينيه أول ما سمع صوتي . دقق النظر في وجهي وقال لي : " كم سنك ؟ " فقلت له خمسة عشر . كنت في الواقع في الثانية عشرة ، لكنني خفت أن يستخف بي. فقال الرجل : " إلى أين تقصد ؟ " فقلت له : " إنني ذاهب للالتحاق بمدرسة ثانوية في القاهرة " . فقال : " وحدك ؟ " قلت نعم . نظر إلى مرة أخرى نظرة طويلة فاحصة ، فقلت له قبل أن يتكلم : " إنني أحب السفر وحدي . مم أخاف ؟ " حينئذ قال لي جملة لم أحفل بها كثيراً وقتذاك . وأضاءت وجهه ابتسامة كبيرة وأردف : " إنك تتحدث اللغة الانكليزية بطلاقة مذهلة " .
وصلت القاهرة ، فوجدت مستر روبنسن وزوجته في انتظاري ، فقد أخبرتهما مستر ستكول بقدومي . صافحني الرجل وقال لي : " كيف أنت يا مستر سعيد ؟ " فقلت له : " أنا بخير يا مستر رونسن " . ثم قدمني إلى زوجته . وفجأة أحسست بذراعي المرأة تطوقاني ، وشفتيها على خدي . في تلك اللحظة ، وأنا واقف على رصيف المحطة ، وسط دوامة من الأصوات والأحاسيس ، وزندا المرأة ملتفان حول عنقي ـ وفمها على خدي ، ورائحة جسمها ، رائحة أوربية غريبة ، تدغدغ أنفي ، وصدرها يلامس صدري ، شعرت وأنا الصبي ابن الاثني عشر عاماً بشهوة جنسية مبهمة لم أعرفها من قبل في حياتي ، وأحسست كأن القاهرة ، ذلك الجبل الكبير الذي حملني إليه بعيري ، امرأة أوربية ، مثل مسز روبنسن وتقول لي : " أنت يا مستر سعيد إنسان خال تماماً من المرح " . صحيح أنني لم أكن أضحك . وتضحك مسز روبنسن وتقول لي : " لا تستطيع أن تنسى عقلك أبداً؟ " ويوم حكموا عليّ في الأولد بيلي بالسجن سبع سنوات ، لم أجد صدراً أسند رأسي إليه . وربتت على رأسي وقالت : " لا تبك يا طفلي العزيز " . لم يكن لهما أطفال . كان مستر روبنسن يحسن اللغـة العـربية ، ويعني بالفكر الإسلامي والعمـارة الإسلامية ، فزرت معهما جوامع القاهرة ، ومتاحفها وآثارها . وكانت أحب مناطق القاهرة إليهما ، منطقة الأزهر . كنا حين تكل أقدامنا من الطواف ، نلوذ بمقهى بجوار جامع الأزهر ، ونشرب عصير التمر هندي ، ويقرأ مستر روبنسن شعر المعري . كنت وقتها مشغولاً بنفسي ، فلم أحفل بالحب الذي أسبغاه علي . كانت مسز روبنسن ممتلئة الجسم ، برونزية اللون ، منسجمة مع القاهرة ، كأنها صورة منتقاة بذوق ، لتناسب لون الجدران في غرفة . وكنت أنظر إلى شعر ابطيها ,أحس بالذعر .. لعلها كانت تعلم أنني أشتهيها ، لكنها كانت عذبة ، أعذب امرأة عرفتها . تضحك بمرح ، وتحنو علي كما تحنو أم على إبنها .
وكانا على الرصيف حين أقلعت بي الباخرة من الإسكندرية . ورأيتها من بعيد وهي تلوح لي منديلها ، ثم تجفف به الدمع من عينيها ، وإلى جوارها زوجها ، واضعاً يديه على خصره ، وأكاد أرى ، حتى من ذلك البعد ، صفاء عينيه . الزرقاوين . إلا أنني لم أكن حزيناً ، كان كل همي أن أصل لندن ، جبلاً آخر أكبر من القاهرة ، لا أدري كم ليلة أمكث عنده . كنت في الخامسة عشرة ، يظنني من يراني في العشرين ، متماسكاً على نفسي ، كأنني قربة منفوخة . ورائي قصة نجاح فذ في المدرسة ، كل سلاحي هذه المدية الحادة في جمجمتي ، وفي صدري إحساس بارد جامد ، كأن جوف صدري مصبوب بالصخر ولما ابتلعت اللجة الساحل ، وهاج الموج تحت السفينة ، وإستدار الأفق الأزرق حوالينا ، أحسست تواً بألفة غامرة للبحر . إنني أعرف هذا العملاق الأخضر اللامنتهي ، كأنه يمور بين ضلوعي . واستمرأت طيلة الرحلة ذلك الإحساس في أني في مكان ، وحدي ، أمامي وخلفي الأبد أو لا شيء وصفحة البحر حين يهدأ سراب آخر ، دائم التبدل والتحول ، مثل القناع الذي على وجه أمي . هنا أيضاً صحراء مخضرة مزرقة ممتدة ، تناديني ، تناديني . وقادني النداء الغريب إلى ساحل دوفر ، وإلى لندن ، وإلى المأساة . لقد سلكت ذلك الطريق بعد ذلك عائداً وكنت أسائل نفسي طوال الرحلة ، هل كان من الممكن تلافي شيء مما وقع ؟ وتر القوس مشدود ، ولابد أن ينطلق السهم . ,انظر إلى اليسار واليمين ، إلى الخضرة الداكنة ، والقرى السكسونية القائمة على حوافي التلال . سقوف البيوت حمراء ، محدودبة كظهور البقر ، وثمة غلالة شفافة من الضباب ، منشورة فوق الوديان . ما أكثر الماء هنا وما أرحب الخضرة. وكل تلك الألوان . ورائحة المكان غريبة ، كرائحة جسد مسز رونسن . والأصوات لها وقع نظيف في أذني ، مثل حفيف أجنحة الطير . هذا عالم منظم ، بيوته وحقوله وأشجاره مرسومة وفقاً لخطة . الغدران كذلك لا تتعرج ، بل تسيل بين شطآن صناعية . ويقف القطار في المحطة ، بضع دقائق . يخرج الناس مسرعين ، ويدخلون مسرعين ، ثم يتحرك القطار . لا ضوضاء . وفكرت في حياتي في القاهرة . لم يحدث شيء ليس في الحسبان . زادت معلوماتي . وحدثت لي أحداث صغيرة ، وأحبتني زميلة لي ثم كرهتني وقالت لي : " أنت لست إنساناً . أنت آلة صماء " . تسكعت في شوارع القاهرة ، وزرت الأوبرا ، ودخلت المسرح ، وقطعت النيل سابحاً ذات مرة . ولم يحدث شيء إطلاقا ، سوى أن القربة زادت انتفاخاً ، وتوتر وتر القوس . سينطلق السهم نحو آفاق أخرى مجهولة . وانظر إلى دخان القطار ، يتلاشى ، حيث تهب به الريح ، في غلالة الضباب المنتشرة في الوديان . وأخذتني سنة من النوم . وحلمت أنني أصلي وحدي في جامع القلعة . كان المسجد مضاء بآلاف الشمعدانات ، والرخام الأحمر يتوهج ، وأنا وحـدي أصلي . واستيقظ وفي أنفي رائحة البخـور ، فإذا القطار يقترب من لندن . القاهرة مدينة ضاحكة ، وكذلك مسز روبنسن . كانت تريدني أن أناديها باسمها الأول ، اليزابيت ، لكنني كنت أناديها باسم زوجها . تعلمت منها حب موسيقى باخ ، وشعر كيتس ، وسمعت عن مارك توين لأول مرة منها . لكني لم أكن أستمتع بشيء , وتضحك مسز روبنسن وتقول لي : " ألا تستطيع أن تنسى عقلك أبداً ؟ " هل كان من الممكن تلافي شيء مما حدث ؟ كنت عائداً حينذاك وتذكرت ما قاله لي القسيس ، وأنا في طريقي إلى القاهرة : " كلنا يا بني نسافر وحدنا في نهـاية الأمر " . كانت يده تتحسس الصليب على صدره . وأضاءت وجهه ابتسامة كبيرة وأردف : " أنك تتحدث الانكليزية بطلاقة مذهلة " . اللغة التي أسمعها الآن ليست كاللغة التي تعلمتها في المدرسة . وهذه أصوات حية ، لها جرس آخر . كان عقلي كأنه مدية حادة . لكن اللغة ليست لغتي . تعلمت فصاحتها بالممارسة . وحملني القطار إلى محطة فكتوريا ، وإلى عالم جين مورس .
كل شيء حدث قبل لقائي إياها ، كان إرهاصا . وكل شيء فعلته بعد أن قتلتها كان اعتذاراً ، لا لقتلها ، بل لأكذوبة حياتي . كنت في الخامسة والعشرين حين لقيتها ، وفي حفل في تشلسي . الباب ، وممر طويل يؤدي إلى القاعة . فتحت الباب ، وتريثت ، وبدت لعيني تحت ضوء المصباح الباهت كأنها سراب لمع في صحراء . كنت مخموراً ، كأسي بقي ثلثاً ، وحولي فتاتان ، أتفحش معهما ، تضحكان , وجاءت تسعى نحونا بخطوات واسعة ، تضع ثقل جسمها على قدمها اليمنى ، فيميل قبالتي ونظرت إلى بصلف وبرود .. وشيء آخر . وفتحت فمي لأتكلم ، لكنها ذهبت , وقلت لصاحبتي " من هذه الأنثى ؟ " .
كانت لندن خارجة من الحرب ومن وطأة العهد الفكتوري . عرفت حانات تشلسي ، وأندية هامبستد ، ومنتديات بلومزبري . اقرأ الشعر ، وأتحدث في الدين والفلسفة ، وانقد الرسم ، وأقول كلاماً عن روحانيات الشرق . أفعل كل شيء حتى أدخل المرأة في فراشي . ثم أسير إلى صيد آخر . لم يكن في نفسي قطرة من المرح ، كما قالت مسز روبنسن . جلبت النساء إلى فراشي من بين فتيات جيش الخلاص ، وجمعيات الكويكرز ، ومجتمعات الفابيانيين . حين يجتمع حزب الأحرار أو العمال أو المحافظين الشيوعيين ، أسرج بعيري وأذهب . وفي المرة الثانية ، قالت لي جين مورس : " أنت بشع . لم أر في حياتي وجهاً بشعاً كوجهك " . وفتحت فمي لأتكلم لكنها ذهبت . وحلفت في تلك اللحظة ، وأنا سكران أنني سأتقاضاها الثمن في يوم من الأيام . وصحوت وآن همند إلى جواري في الفراش . أي شيء جذب آن همند إليّ ؟ أبوها ضابط في سلاح المهندسين ، وأمها من العوائل الثرية في لفربول كانت صيداً سهلاً ، لقيتها وهي دون العشرين ، تدرس اللغات الشرقية في أكسفورد . كانت حية ، وجهها ذكي مرح وعيناها تبرقان بحب الاستطلاع . رأتني فرأت شفقاً داكناً كفجر كاذب . كانت عكسي تحن إلى مناخات استوائية ، وشموس قاسية ، وآفاق أرجوانية . كنت في عينها رمزاً لكل هذا الحنين . وأنا جنوب يحن إلى الشمال والصقيع . وآن همند قضت طفولتها في مدرسة راهبات . عمتها زوجة نائب في البرلمان . حولتها في فراشي إلى عاهرة . غرفة نومي مقبرة تطل على حديقة ، ستائرها وردية منتقاة بعناية ، وسجاد سندسي دافئ والسرير رحب مخداته من ريش النعام . وأضواء كهربائية صغيرة ، حمراء وزرقاء ، وبنفسجية ، موضوعة في زوايا معينة . وعلى الجدران مرايا كبيرة ، حتى إذا ضاجعت امرأة ، بدأ كأنني أضاجع حريماً كاملاً في آن واحد . تعبق في الغرفة رائحة الصندل المحروق والند ، وفي الحمام عطور شرقية نفاذة ، وعقاقير كيمائية ، ودهون ، مساحيق ، وحبوب . غرفة نومي كانت مثل غرفة عمليات في مستشفى . ثمة بركة ساكنة في أعماق كل امرأة . كنت أعرف كيف أحركها . وذات يوم وجدوها ميتة انتحاراً بالغاز ووجدوا ورقة صغيرة باسمي . ليس فيها سوى هذه العبارة : مستر سعيد . لعنة الله عليك " . كان عقلي كأنه مدية حادة . وحملني القطار إلى محطة فكتوريا . وإلى عالم جين مورس .
في قاعة المحكمة الكبرى في لندن ، جلست أسابيع أستمع إلى المحامين يتحدثون عني ، كأنهم يتحدثون عن شخص لا يهمني أمره . كان المدعي العمومي سير آرثر هنغنز عقل مربع ، أعرفه تمام المعرفة ، علمني القانون في أكسفورد ، ورأيته من قبل ، في المحكمة نفسها وفي هذه القاعة ، يعتصر المتهمين في قفص الاتهام اعتصارا . نادراً ما كان يلفت متهم من يده . ورأيت متهمين يبكون ويغمى عليهم ، بعد أن يفرغ من استجوابهم . لكنه هذه المرة كان يصارع جثة .
" هل تسببت في انتحار آن همند ؟ "
" لا أدرى "
" وشيلا غرينود ؟ "
" لا أدري "
" وإيزابيلا سيمور ؟ "
" لا أدري "
" هل قتلت جين مورس ؟ "
" نعم "
كان صوته كأنما يصلني من عالم آخر . ومضى الرجل يرسم بحدق صورة مريعة لرجل ذئب ، تسبب في انتحار فتاتين ، وحطم امرأة متزوجة ، وقتل زوجته ، رجل أناني ، انتصبت حياته كلها على طلب اللذة . ومرة خطر لي في غيبوبتي ، وأنا جالس هناك أستمع إلى أستاذي ، بروفسور ماكسول فستر كين ، يحاول أن يخلصني من المشنقة ، أن أقف وأصرخ في المحكمة : " هذا المصطفى سعيد لا وجود له . إنه وهم ، أكذوبة . وإنني أطلب منكم أن تحكموا بقتل الأكذوبة . لكنني كنت هامداً مثل كومة رماد . ومضى برفسور ماكسول فستر كين يرسم صورة لعقل عبقري دفعته الظروف إلى القتل ، في لحظة غيرة وجنون . روى لهم كيف أنني عينت محاضراً للاقتصاد في جامعة لندن ، وأنا في الرابعة والعشرين . قال لهم أن " آن همند " و " شيلا غرينود " كانتا فتاتين تبحثان عن الموت بكل سبيل ، وأنهما كانتا ستنتحران سواء قابلتا مصطفى سعيد أو لم تقابلاه . " مصطفى سعيد يا حضرات المحلفين إنسان نبيل ، استوعب عقله حضارة الغرب ، لكنها حطمت قلبه . هاتان الفتاتان لم يقتلهما مصطفى سعيد ولكن حطمت قلبه . هاتان الفتاتان لم يقتلهما مصطفى سعيد ولكن قتلهما جرثوم مرض عضال أصابهما منذ ألف عام " . وخطر لي أن أقف وأقول لهم : " هذا زور وتلفيق . قتلتهما أنا . أنا صحراء الظمأ . أنا لست عطيلا . أنا أكذوبة . لماذا لا تحكمون بشنقي فتقتلون الأكذوبة ! " . لكن بروفسور فستر كين حوّل المحاكمة إلى صراع بين عالمين ، كنت أنا أحدى ضحاياه . وحملني القطار إلى محطة فكتوريا ، وإلى عالم جين مورس .
لبثت أطاردها ثلاثة أعوام . كل يوم يزداد وتر القوس
توتراً ، قربي مملوءة هواء ، وقوافلي ظمأى ، السراب يلمع أمامي في متاهة الشوق ، وقد تحدد مرمى السهم ، ولا مفر من وقوع المأساة . وذات يوم قالت لي : " أنت ثور همجي لا يكل من الطراد . إنني تعبت من مطاردتك لي ، ومن جريي أمامك . تزوجني " . وتزوجتها . غرفة نومي صارت ساحة حرب . فراشي كان قطعة من الجحيم . أمسكها فكأنني أمسك سحابا ، كأنني أضاجع شهابا ، كأنني أمتطي صهوة نشيد عسكري بروسي . وتفتأ تلك الابتسامة المريرة على فمها . أقضي الليل ساهراً ، أخوض المعركة بالقوس والسيف والرمح والنشاب ، وفي الصباح أرى الابتسامة ما فتئت على حالها ، فأعلم أنني خسرت الحرب مرة أخرى . كأنني شهريار رقيق ـ تشتريه في السوق بدينار ، صادف شهر زاد متسولة في أنقاض مدينة قتلها الطاعون . كنت أعيش مع نظريات كينز وتوني بالنهار ، وبالليل أواصل الحرب بالقوس والسيف والرمح والنشاب . رأيت الجنود يعودون ، يملؤهم الذعر ، من حرب الخنادق والقمل والوباء . رأيتهم يزرعون بـذور الحرب القادمة في معاهدة فرسـاي ، رأيت لويـد جورج يضـع أُسس دولة الرفاهية العـامة . وانقلبت المدينة إلى امرأة عجيبة ، لها رموز ونداءات غامضة ، ضربت إليها أكباد الإبل ، وكاد يقتلني في طلابها الشوق ، غرفة نومي ينبوع حزن ، جرثوم مرض فتاك . العدوى أصابتهن منذ ألف عام ، لكنني هيجت كوامن الداء حتى استفحل وقتل . وكان المغنون يرددون أهازيج الحب الحقيقي والمرح في مسارح لستر سكوير ، فلم يخفق لها قلبي . من كان يظن أن شيلا غرينود تقدم على الانتحار ؟ خادمة في مطعم في سوهو . بسيطة حلوة المبسم ، حلوة الحديث . أهلها قرويون من ضواحي هل . أغريتها بالهدايا والكلام المعسول ، والنظرة التي ترى الشيء فلا تخطئه . جذبها عالمي الجديد عليها . دوختها رائحة الصندل المحروق والند ، ووقفت وقتاً تضحك لخيالها في المرآة ، وتعبث بعقد العاج الذي وضعته كأنشوطة حول جيدها الجميل . دخلت غرفة نومي بتولاً بكراً ، وخرجت منها تحمل جرثوم المرض في دمها . ماتت دون أن تنبس ببنت شفة . ذخيرتي من الأمثال لا تنفد . ألبس لكل حالة لبوسها ، شنى يعرف متى يلاقي طبقه .
" أليس صحيحاً أنك في الفترة ما بين أكتوبر 1922 وفبراير 1923 ، في هذه الفترة وحدها على سبيل المثال ، كنت تعيش مع خمس نساء في آن واحد ؟ ".
"بلى " .
" وانك كنت توهم كلاً منهن بالزواج ؟ "
" بلى " .
" وانك انتحلت إسماً مختلفاً مع كل منهن ؟ "
" بلى " .
" انك كنت حسن ، تشارلز ، وأمين ، ومصطفى ، ورتشارد ؟ "
" بلى " .
" مع ذلك كنت تكتب وتحاضر عن الاقتصاد المبني على الحب لا على الأرقام ؟ أليس صحيحاً انك أقمت شهوتك بدعوتك الإنسانية في الاقتصاد ؟ "
" بلى " .
ثلاثون عاماً . كان شجر الصفصاف يبيض ويخضر ويصفر في الحدائق ، وطير الوقواق يغني للربيع كل عام . ثلاثون عاما وقاعة البرت تغص كل ليلة بعشاق بيتهوفن وباخ ، والمطابخ تخرج آلاف الكتب في الفن والفكر . مسرحيات برنارد شو ثمثل في الرويال كورت والهيماركت . كانت ايدث ستول تغرد بالشعر ، ومسرح البرنس اف ويلز يفيض بالشباب والألق . البحر في مده وجزره في بورتمث وبرايتن ، ومنطقة البحيرات تزدهي عاماً بعد عام . الجزيرة مثل لحن عذب ، سعيد حزين ، في تحول سرابي مع تحول الفصول . ثلاثون عاماً وأنا جزء من كل هذا ، أعيش فيه ، ولا أحس جماله الحقيقي ولا يعنيني منه إلا ما يملأ فراشي كل ليلة .
نعم . في الصيف . قالوا أن صيفاً مثله لم يأتهم منذ مائة عام . خرجت من داري يوم سبت اشمشم الهواء ، وأحس بأنني مقبل علي صيد عظيم . وصلت ركن الخطباء في حديقة هايد بارك . كان غاضاً بالخلق . وقفت عن بعد أستمع إلى خطيب من جزر الهند الغربية يتحدث عن مشكلة الملونين . استقرت عيني فجأة على امرأة تشرئب بعنقها لرؤية الخطيب ، فيرتفع ثوبها إلى ما فوق الركبتين ، مظهراً ساقين ملتفتين من البرونز . نعم هذه فريستي , وسرت إليها ، كالقارب يسير إلى الشلال . ووقفت رواءها ، والتصقت حتى أحسست بحرارتها تسري إلى . وشممت رائحة جسدها ، تلك الرائحة التي استقبلتني بها مسز روبنسون على رصيف محطة القاهرة . واقتربت منها حتى أحست بي ، فالتفتت إلى فجأة ، فابتسمت في وجهها ابتسامة لم أكن أعلم مصيرها ، لكنني عومت على ألا تضيع هباء . وضحكت أيضاً ، حتى لا تنقلب الدهشة في وجهها إلى عداء فابتسمت . ووفقت إلى جانبها نحواً من ربع الساعة ، أضحك حين يضحكها قول الخطيب ، وأضحك بصوت مرتفع لكي تسري فيها عدوى الضحك ، حتى جاءت لحظة ، أحسست فيها أنني وهي صرنا كفرس ومهرة ، يركضان في تناسق ، جنباً إلى جنب , وهنا خرج الصوت من حلقي ، كأنه ليس صوتي : " ما رأيكِ في شراب ، بعيداً عن هذا الزحام والحر ؟ " أدارت رأسها بدهشة ، فابتسمت هذه المرة ابتسامة عريضة بريئة ، حتى أحول الدهشة إلى حب استطلاع على الأقل . وفي أثناء ذلك تفرست في وجهها ، فوجدت كل سمة من سماته يزيدني اقتناعاً بأن هذه فريستي . كنت أعلم ، بطبيعة المقامر ، أن تلك اللحظة حاسمة . كل شيء في هذه اللحظة محتمل . وتحولت ابتسامتي إلى سرور كاد يفلت زمامه من يدي حين قالت : " نعم . ولم لا ؟ " وسرنا معاً ، أحس بها إلى جانبي وهجاً من البرونز تحت شمس يوليو ، أحس بها مدينة من الأسرار والنعيم . وسرني أنها تضحك بسهولة . هذه السيدة ، نوعها كثير في أوربا ، نساء لا يعرفن الخوف ، يقلبن على الحياة بمرح وحب استطلاع . وأنا صحراء الظمأ ، متاهة الرغائب الجنوبية . وسألتني ونحن نشرب الشاي عن بلدي . رويت لها حكايات ملفقة عن صحاري ذهبية الرمال ، وأدغال تتصايح فيها حيوانات لا وجود لها . قلت لها أن شوارع عاصمة بلادي تعج بالأفيال والأسود ، وتزحف عليها التماسيح عند القيلولة . وكانت تستمع إليّ بين مصدقة ومكذبة . تضحك ، وتغمض عينيها ، وتحمر وجنتاها . وأحياناً تصغي إلى في صمت ، وفي عينيها عطف مسيحي . وجاءت لحظة أحسست فيها أنني انقلبت في نظرها مخلوقاً بدائياً عارياً ، يمسك بيده رمحاً ، وبالأخرى نشاباً ، يصيد الفيلة والأسود في الأدغال . هذا حسن . لقد تحول حب الاستطلاع إلى مرح ، وتحول المرح إلى عطف ، وحين أحرك البركة الساكنة في الأعماق ، سيستحيل العطف إلى رغبة أعزف على أوتارها المشدودة كما يحلو لي . وسألتني : " ما جنسك ؟ هل أنت أفريقي أم أسيوي ؟ "
قلت لها : " أنا مثل عطيل . عربي أفريقي " .
نظرت إلى وجهي وقالت : " نعم . أنفك مثل أنوف العرب في الصور . لكن شعرك ليس فاحماً ناعماً مثل شعر العرب " .
" نعم ؟ هذا أنا . وجهي عربي كصحراء الربع الخالي ، ورأسي أفريقي يمور بطفولة شريرة " .
ضحكت وقالت : " أنت تصور الأشياء بشكل غريب " . وقادنا الحديث إلى أهلي ، فقلت لها ، غير كاذب هذه المرة ، أنني يتيم وليس لي أهل . ثم عدت إلى الكذب ، فوصفت لها وصفاً مهولاً كيف فقدت والدي ، حتى رأيت الدمع يطفر إلى عينيها . قلت لها أنني كنت في السادسة من عمري ، حين غرق والداي مع ثلاثين آخرين في مركب كان بعبر بهم النيل من شاطيء إلى شاطيء . وهنا حدث شيء كان أفضل من الرثاء . الرثاء في مثل هذه الأمور عاطفة غير مضمونة العواقب . لمعت عيناها ، وصاحت في نشوة : " نايل ؟ " .
" نعم النيل " .
" أنتم تسكنون على ضفاف النيل ؟ "
" أجل ، بيتنا على ضفة النيل تماماً بحيث أنني كنت إذا استيقظت على فراشي ليلاً ، اخرج يدي من النافذة وأداعب ماء النيل حتى يغلبني النوم " .
الطائر يا مستر مصطفى قد وقـع في الشرك . النيل ، ذلك الإله الأفعى ، قد فاز بضحية جديدة . المدينة قد تحولت إلى امرأة . وما هو إلاّ يوم أو أسبوع ، حتى أضرب خيمتي ، واغرس وتدي في قمة الجبل . أنت يا سيدتي قد لا تعلمين ، ولكنك ، مثل "كارنارفون " حين دخل قبر توت عنخ آمون ، قد أصابك داء فتاك لا تدرين من أين أتى ، سيؤدي بك إن عاجلاً وان آجلاً . ذخيرتي من الأمثال لا تنفذ . شنى يعرف متى يلاقي طبقه . وأحسست بزمام الحديث في يدي ، كفنان مهره مطواع ، أشده فتقف ، أهزه فتمشي ، أحركه فتتحرك وفقاً لإرادتي ، إن يميناً وإن شمالا . وقلت لها :
" مضت ساعتان دون أن أحس بهما . لم أحس بمثل هذه السعادة منذ زمن بعيد وبقي كثيراً قوله لك وتقولينه لي . ما رأيك في أن نتمشى معاً ، نواصل الحديث ؟ "
صمتت برهة ، فلم أقلق ، لأنني أحسست بذلك الدفء الشيطاني ، تحت الحجاب الحاجز حين أحسه أعلم أنني مسيطر على زمام المواقف . لا ، أنها لن تقول لا . وقالت : " هذا لقاء عجيب . رجل غريب لا أعرفه يدعوني . هذا لا يجوز ، لكن .. " وصمتت ثم قالت : " نعم . لم لا ؟ هيئتك لا تدل على أنك من آكلة لحوم البشر " .
قلت لها ، وموجة الفرح تتحرك في ، جذور قلبي : " ستجدني أنني تمساح عجوز سقطت أسنانه . لن أقوى على أكلك حتى لو أردت " . قدرت أنني أصغرها بخمسة عشر عاماً على الأقل ، امرأة في حدود الأربعين ، مهما حدثت لها من التجارب فإن الزمن قد عامل جسدها بحنو . التجاعيد الدقيقة على جبهتها وعلى أركان فمها لا تقول لك أنها شاخت ، بل تقول أنها نضجت .
حينئذ فقط سألتها عن اسمها فقالت : " إيزابيلا سيمور " . رددته مرتين ، وأنا أملأ به فمي ، كأنني آكل ثمرة كمثري .
" وأنت ما اسمك ؟ " .
" أنا .. أمين . أمين حسن " .
" سأسميك حسن " .
ومع الشواء والنبيذ ، انفرجت أساريرها ، وتدفق حب تحس به نحو العالم بأسره ، عليّ أنا . وأنا لا يعنيني حبها للعالم . ولا سحابة الحزن التي تعبر وجهها من آن لآن ، بقدر ما تعنيني حمرة لسانها حين تضحك ، واكتناز شفتيها ، والأسرار الكامنة في قاع فمها . وتخيلتها عارية ، وأفحشت التخيل وهي تقول لي : " الحياة مليئة بالألم . لكن يجب علينا أن نتفاءل ، ونواجه الحياة بشجاعة " .
نعم أنا أعلم الآن أن الحكمة القريبة المنـال ، تخرج من أفواه البسطاء ، هي كل أملنا في الخلاص . الشجرة تنمو ببساطة ، وجدك عاش وسيموت ببساطة . ذلك هو السر. صدقت يا سيدتي ، الشجاعة والتفاؤل . لكن إلى أن يرث المستضعفون الأرض ، وتسرح الجيوش ، ويرعى الحمل آمناً بجوار الذئب ، ويلعب الصبي كرة الماء مع التمساح في النهر ، إلى أن يأتي زمان السعادة والحب هذا ، سأظل أنا أعبر عن نفسي بهذه الطريقة الملتوية . وحين أصل لاهثاً قمة الجبل ، وأغرس البيرق ، ثم ألتقط أنفاسي وأستجم – تلك يا سيدتي نشوة أعظم عندي من الحب ، ومن السعادة . ولهذا ، فأنا لا أنوي بك شراً ، إلا بقدر ما يكون البحر شريراً ، حين تتحطم السفن على صخوره ، وبقدر ما تكون الصاعقة شريرة حين تشق الشجرة نصفين . وتركزت الفكرة الأخيرة في رأسي ، بشعيرات على ذراعها الأيمن ، قريباً من الرسغ ، ولاحظت أن شعر ذراعيها أكثف مما هو عند النساء عادة ، وقادني هذا إلى شعر آخر . لابد أنه ناعم غزير مثل نبات السعدة على حافة الجدول . وكأنما سرت الفكرة من ذهني إليها ، فاعتدلت في جلستها وقالت : " ما بالك تبدو حزيناً ؟ "
" هل أبدو حزيناً ؟ أنا على العكس ، سعيد جداً " .
وعادت النظرة الحانية إلى عينيها ، ومدت يدها فأمسكت يدي وقالت . " هل تدري أن أمي اسبانية ؟ "
" هذا إذا يفسر كل شيء . يفسر لقاءنا صدفة ، وتفاهمنا تلقائياً ، كأننا تعارفنا منذ قرون . لابد أن جدي كان جندياً في جيش طارق بن زياد . ولابد أنه قابل جدتك ، وهي تجني العنب في بستان في اشبيلية ولابد أنه أحبها من أول نظرة ، وهي أيضاً أحبته, وعاش معها فترة ثم تركها وذهب إلى أفريقيا , وهناك تزوج . وخرجت أنا من سلالته في أفريقيا ، وأنت جئت من سلالته في اسبانيا " .
هذا الكلام ، والضوء الخافت أيضاً والنبيذ ، أسعدها ، فقرقرت لهاتها بالضحك وقالت : " يا لك من شيطان " .
وتخيلت برهة لقاء الجنود العرب لأسبانيا . مثلي في هذه اللحظة ، أجلس قبالة إيزابيلا سيمور ، ظمأ جنوني تبدد في شعاب التاريخ في الشمال . إنما أنا لا أطالب المجد ، فمثلي لا يطلب المجد .
وأدرت مفتاح الباب بعد شهر من حمى الرغبة ، وهي إلى جانبي ، أندلس خصب ، وقدتها بعد ذلك عبر الممر القصير إلى غرفة النوم ، ولفحتها رائحة الصندل المحروق والند ، فملأت رئتيها بعبير لم تكن تعلم أنه عبير قاتل . كنت تلك الأيام ، حين تصبح القمة مني على مد الذراع ، يعتريني هدوء تراجيدي . كل الحمى والوجيب في القلب ، والتوتر في العصب ، يتحول إلى هدوء جراح وهو يشق بطن المريض . وكنت أعلم أن الطريق القصير الذي شرناه معاً إلى غرفة النوم ، كان بالنسبة لها مضيئاً ، يعبق بعبير التسامح والمحبة ، وكان بالنسبة لي الخطوة الأخيرة ، قبل الوصول إلى قمة الأنانية وتريثت عند حافة الفراش ، كأنني الخص تلك اللحظة في ذهني ، وألقيت نظرة موضوعية على الستائر الوردية المراءات الكبيرة ، والأضواء الحذرة في أركان الحجرة ثم على تمثال البرونز المكتمل التكوين أمامي . ونحن في قمة المأساة صرخت بصوت ضعيف : " لا . لا . " . هذا لا يجديك نفعاً الآن . لقد ضاعت اللحظة الخطيرة حين كان بوسعك الامتناع عن إتخاذ الخطوة الأولى . أنني أخذتك على غرة ، وكان بوسعك حينئذ أن تقولي " لا " . أما الآن فقد جرفك تيار الأحداث ، كما يجرف كل إنسان ، ولم يعد في مقدورك فعل شيء . لو أن كل إنسان عرف متى يمتنع عن اتخـاذ الخطوة الأولى ، لتغيرت أشياء كثيرة . هل الشمس شريرة حين تحيل قلوب ملايين البشر إلى صحاري تتعارك رمالها ويجف فيها حلق العندليب ؟ وتريثت وأنا أمسح براحة يدي ظاهر عنقها ، واقبلها في منابع الإحساس . ومع كل لمسة ، مع كل قبلة ، أحس أن عضلة في جسدها ترتخي ، وتألق وجهها ولمعت عيناها ببريق خاطف ، واستطالت نظراتها كأنها تنظر إلى فتراني رمزاً ليس حقيقة . وسمعتها تقول لي بصوت متضرع مستسلم : " أحبك " ، فجاوب صوتها هتاف ضعيف في أعماق وعيي يدعوني أن أقف . لكن القمة صارت على بعد خطوة ، وبعد ذلك التقط أنفاسي واستجم . ونحن في قمة الألم عبرت برأسي سحائب ذكريات بعيدة قديمة كبخار يصعد من بحيرة مالحة وسط الصحراء . وانفجرت هي ببكاء ممض محرق ، واستسلمت أنا إلى نوم متوتر محموم .